د. محمد عبدالله العوين
تتميز مدرسة الحكم السعودية بأصالة التقاليد المتوارثة التي تتطور بمرور الزمن؛ فتضيف الأجيال اللاحقة إلى السابقة ما يجد من دروس وأساليب وثقافات ورؤى، بحيث تتجدد هذه المدرسة السياسية القيادية على الدوام؛ فعلى مدى مائتين وثمانين عاما تعاقبت أجيال ثم أجيال تنهل من حكمة الآباء المؤسسين وكفاحهم وبطولاتهم وشجاعتهم ومواقف الصمود والإصرار أمام العواصف والأعاصير التي هبت على الدولة في مراحلها الثلاث وكيف أثمر الإيمان العميق بسمو الهدف ونبل الغاية وشرف المقصد وصدق العزيمة بعد التوكل على الله وإخلاص النية له من استعادة الدولة مكانتها وإسقاط المؤامرات والأحابيل التي كانت تحيكها دولة الخلافة التركية ضد كل ما هو عربي في طول الخارطة العربية وعرضها؛ وليست الدولة السعودية فحسب؛ ذلك أن عقدة «التتريك» والعنصرية العرقية البغيضة هما اللتان دفعتا الباب العالي في إستانبول ومندوب الباب العالي في مصر محمد علي باشا أن يفتريا ويتقولا على الدولة السعودية وعلى الدعوة السلفية الإصلاحية ما لا يمكن أن يخطر على بال أحد من العرب أو المسلمين من اتهامات وأكاذيب وابتلاء للقادة المصلحين أمثال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمه الله، وابنه عبد الله بن سعود، والدعاة الصالحين من أئمة الدعوة.
لقد كانت مواقف الشجاعة والبسالة والحكمة والصبر والمناورة والعزيمة التي تجلت في إقدام الإمام تركي بن عبد الله، ثم في مغامرات ابنه الإمام فيصل التي تكاد تعد من ضروب الخيال في استعادة الدولة دروسا تتناقلها أجيال مدرسة الحكم السعودية، ويتعلمها الأبناء والأحفاد من الآباء والأجداد، ووجد «سلمان» نفسه - منذ أن بلغ مبلغ الطلب وتاق إلى المعرفة والاكتشاف - مصغياً ومتعلماً ومراقباً دقيقاً لما يجري في «قصر الحكم» في السنوات الأخيرة من حكم والده الملك المؤسس عبد العزيز - رحمه الله - ثم في فترات الملوك الخمسة اللاحقين، تغمدهم الله برحمته؛ فتلقى في مجالس الحكم المفتوحة معارف ورؤى وحكماً وخلاصات فكر لا يمكن أبداً أن يحظى بها لو جثا على ركبتيه طالباً العلم في أرقى جامعات العالم من السوروبون إلى هارفافرد؛ فهناك يتعلم الطلاب المقررات ويستوعبونها وقد يضيفون إليها وقد يبرعون في فن من فنونها؛ بيد أن الأكثر إبهاراً وإعجاباً أن يتمكن المتلقي لتلك الدروس الأكاديمية من تطبيق ما سمع وما وعى وما وقر في وجدانه على ما يحدث في الحياة اليومية وما يعرض أمامه من قضايا عويصة شائكة لا يمكن أن يجد لها حلولاً في مدونات القانون ولا كتب السياسة؛ بل يفرض الموقف الصاخب المحتدم اتخاذ رؤية وحلول سريعة جاهزة لدفع أزمة تكاد تقع، أو منع مظلمة حيكت لأحد، أو إنقاذ الوطن من جريرة خيانة ربما أعادت الناس إلى الوراء عقوداً وأدخلتهم في دوائر الفوضى والاضطراب؛ نتيجة تضارب مصالح دول أو فساد ذمم أو تغول أطماع! نشأ سلمان يتلقى في هذه المدرسة الحكمة والصبر وضبط النفس والحزم واللين وإنزال الناس منازلهم وإكرامهم وإعطاء كل ذي حق حقه من الاحتفاء والتقدير، تعلم في مدرسة الحكم كيف يقرأ الملامح وتعابير الوجوه ونكهة اللهجة وإلى أي قبيلة أو منطقة أو إقليم تنتمي، ووعى بعمق شديد مكونات النسيج العشائري لقبائل الجزيرة العربية؛ فحفظ تسلسل الأنساب وشيوخ القبائل ومواطنهم وعاداتهم وما يرضيهم أو يسخطهم وما يعتزون به أو يتناءون عن ذكره من مواقف الخلافات والشحناء القديمة، حفظ سلمان قصص العشائر وعايش خلافاتها القديمة على مضارب المياه ونزاعاتها على ما يفصل بين أملاكها من ادعاءات تملك، ووعى ببصيرة نافذة وذاكرة كالحديد ذلك التاريخ القبلي للحاضرة وللبادية؛ حتى ليعرف القادم إليه باسمه؛ لأنه رآه مرة قبل عقد من السنين أو تقدم إليه بشكوى، ووفق هذه الذارة العجيبة لا ينسى تاريخ قضية من القضايا التي صدر فيها حكم قضائي وبت في أمرها؛ فيفاجئ الشاكي الذي يريد أن يجدد الدعوى بما يخزنه في ذاكرته عنها من تطورات وأحكام؛ مما يفشل مسعى الطامع ويعيده خاوي الوفاض!
يتبع