د.عبد الرحمن الحبيب
كانت مجتمعاتنا المحلية بسيطة، وكانت القضايا غالباً واضحة، وكان المتخاصمون متعارفين، أو كما يقول المثل الشعبي: «كلنا عيال قرية كل يعرف أخيه». أما الآن فالعالم كله أصبح قرية صغيرة، لكن الجار لا يعرف جاره!
لعل البساطة السابقة كانت من أهم أسباب عدم نجاح تقنين الشريعة فالحاجة له لم تكن ماسة آنذاك. ففيما مضى من زمن في البلدات والقرى كان القضاة يواجهون قضايا خلافية بين المتخاصمين بسهولة مقارنة بالعصر الحديث.. بل كثيراً ما كان القاضي يعرف جيداً المتخاصمين، ويحكم في قضية وهو في الطريق خارجاً من المسجد أو في السوق متبضعاً.. وكثيراً ما يرضى المتخاصمون.. فالعلاقة كانت مفتوحة مع القاضي الذي يجتهد في أحكامه وفقاً لفهمه للقرآن والسنة ومناغمتها مع أعراف وتقاليد مجتمعه المحلي..
أما الآن، في زمن المدن وتعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والنمو المتزايد لقنوات الاتصال وثورة المعلومات، وتنوع الأنظمة والقوانين وتخصصها وتفرعها، وتجدد أنماط الحياة والتعدد الهائل في النشاطات، وتطور القضايا الحقوقية، أصبحت الحاجة ماسة لتقنين كافة الأنظمة والحقوق الشرعية. فلم يعد مقنعاً الاكتفاء باجتهاد القاضي، ولم يعد مبرراً التفاوت الكبير بين أحكام القضاة في قضية واحدة، ولم يعد مقبولاً عدم معرفة المواطن أو المدعي أو المدعى عليه لأبسط الأحكام نتيجة عدم وجود تقنين محدد لها، بل وصل الأمر حسبما ذكر د. بركة الحوشان رئيس المعهد العالي للدراسات العسكرية في الكلية الأمنية - سابقاً: «يُنقل عن أحد القضاة أنه لا يراجع في أحكامه، ومن يراجعه في جلسة النطق بالحكم يضاعف الحكم عليه!» (صحيفة اليوم).
هناك رأي شبه عام بأن تدوين الشريعة سيحل مشكلة تفاوت الأحكام بين القضاة، إنما إقرار التدوين معضلة متشعبة وقديمة قدم التاريخ الإسلامي، ولكي ندركها ونأخذ منها العبرة في التطوير، يجدر بنا المرور سريعاً في محاولات تقنين الشريعة عبر التاريخ الإسلامي. قد لا نجد أن الحالة مشجعة، حيث حاول بعض الحكام ذلك، ويبدو أن أولهم الخليفة الوليد بن عبد الملك، حيث ذُكر أنه كتب يحمل القضاة على قول خالد بن معدان الكلاعي بتدوين الشريعة، ولكنها لم تفلح، ربما نتيجة صعوبة هذا العمل الضخم والمعقد أمام الظروف الاجتماعية والثقافية آنذاك وسيادة الأعراف الفقهية..
كما تلاه في هذا التوجه الخليفة عمر بن عبد العزيز، وفقاً لحديث أبي زرعة الذي يفهم منه أن الخليفة أراد تدوين الشريعة بحيث يتحول ذلك إلى قانون يحمل الناس عليه أو يلزمهم به. وربما ولنفس الأسباب السابقة لم تنجح الفكرة. وكان للخليفة العباسي المنصور بعض محاولات في ذلك، حسبما رواه الإمام مالك الذي لم يوافق المنصور على فكرته. لقد كانت مرحلة فورة في الاجتهادات الفقهية تتصادم مع مفهوم التقنين الذي يحد منها. إضافة إلى اختلاف المذاهب باختلاف المناطق وصعوبة التوفيق بينها..
ومن المحاولات الحديثة ما قامت به الخلافة العثمانية بوضع «لائحة الأحكام العدلية» بعد أن أصدر قدري باشا كتابه «مرشد الحيران». وفي السعودية بدأت المحاولات عام 1346هـ، فقد جاء في افتتاحية «أم القرى» في عددها الصادر بتاريخ 28- 2-46هـ: إن جلالة الملك - حفظه الله - يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة. وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293هـ.. (أبحاث هيئة كبار العلماء، المجلد الثالث 1421هـ).
ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد، حسب قرار الهيئة القضائية بداية عام 1347هـ المقترن بالتصديق العالي. لكن جرى ذلك دون عمل تدوين، حتى طلب الملك فيصل النظر في تدوين الأحكام الشرعية لأجل البدء بوضع قوانين شرعية بديلة لما يسير عليه أغلب العالم فيما يُسمى بالقانون المدني والجنائي. فصدرت في عام 1393هـ فتوى بالأغلبية تمنع تدوين الراجح من الأحكام الشرعية للإلزام به، واستمر العمل عليها إلى اليوم (صحيفة الوطن).
وصدرت عام 1421هـ دراسة من قِبل هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة؛ بناء على رغبة المقام السامي، حول تدوين الأحكام الشرعية الراجحة في كتاب يعمم على المحاكم وإلزام القضاة بالتمشي بموجبه. أسفرت الدراسة عن انقسام الرأي في المسألة بين مانع ومجيز. وفي نهاية المطاف صدر قبل شهرين ونصف أمر خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة شرعية موسعة لإعداد مشروع «مدونة الأحكام القضائية في المواضيع الشرعية»، على هيئة مواد على أبواب الفقه خلال 180 يوماً.
لماذا تفاوتت الآراء حول تقنين الشريعة بين مجيز ومانع؟ الذين يعارضونها يرون فيها مدخلاً لتغيير الشريعة يؤدي إلى الحكم بغير ما أنزل الله. كما أنَّه سبيلٌ لهجر الفقه الشرعي، والقضاء على التراث الإسلامي في مجال بيان أحكام المعاملات، والاكتفاء بالمواد المقننة، وفي ذلك تضييق على المسلمين بحملهم على قولٍ واحدٍ بصفة مستديمة، والحرمان من استقلال النظر.
أما الفقهاء المجيزون للتدوين -ويبدو أنهم صاروا أغلبية- فحججهم أن التدوين يعين القضاة على إصدار الأحكام الشرعية الصحيحة، بالاهتداء إلى القاعدة النظامية بسهولة، ومعرفة الحقوق والواجبات في التقاضي، والقضاء على الاجتهادات وتضارب الأحكام بين القضاة في القضايا المماثلة نتيجة الاجتهاد الفردي. ويتيح التقنين للناس وأصحاب القضايا والمحامين والمهتمين فرصة الاطلاع على المواد الشرعية المقننة، دون الحاجة للرجوع إلى مصادرها في متون ومراجع الفقه الإسلامي. كما أن التقنين لن يقود إلى قفل باب الاجتهاد، بل هو قائمٌ لإعادة النظر مستقبلاً في المواد حسب ما تقتضيه متغيرات الأحوال والمصالح والحاجات، مثل ما هو قائمٌ للنظر في القضايا المستجدة.. (د. عبد المجيد الجلال).
مشوار طويل وعسير لأسباب وجيهة تمت الإشارة لها، ولأسباب وهمية حاول الحُكام العمليون إزالتها.. أوهام أنتجتها الحساسية المفرطة من التجديد لدى البعض أدت لعكس ما يرغبون حيث جُمِّد الفقه والاجتهادات التطويرية لأنه لم يتعايش مع الواقع المتغير فظهرت أنظمة مدنية لا حصر لها خارج هذا الفقه، وأوهام أخرى من دعاة متشددين إيديولوجياً أهدافهم سياسية خارج الفقه...