د. راشد المبارك
لم يبقَ من مالك بن الريب غيرُ أبياته التي رثى بها نفسه حين بات «ليلةً بجنب الغضا» ثم رحل شخصُه وساد نصُّه، وبقي لدينا من عالِمنا الكبير الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - الكثيرُ ممثلاً في تآليفه وتلاميذه ومحبيه ونواتج عطاءاته الخيرية ومخرجات منتداه الثقافي عبر ثلث قرن وشعرِه الذي اختتمه بهذه القصيدة المؤثرة التي رثى بها نفسَه فحملت تلويحة الوداع قبل الوداع وأعلنت الرحيل قبل الرحيل.
إلى أم فارس
نعمنا زماناً بالهوى قد صفا الهوى
ورقَّ كأنسامِ الربيعِ المورّدِ
تعانقتِ الأرواحُ منَّا ... وضمَّها
رباطٌ سماويُّ النَقا والتَجَدُّدِ
وقد حان مِن وقتي الرحيل فودِّعي
وداعَ مُحبٍّ ما احتمى بالتجلُّدِ
وقولي: لقَد كان الوَفا أفتدي الوفا
جواداً بما يُغلي وما هو في اليدِ
وجدتُكَ في قلبي رفيفَ خمَيلةٍ
ونفحةَ ريحانٍ بظلٍ ممدَّدِ
وقدْ كنتَ في عيني الضياءَ أرى بهِ
وفي مَسمعي لحناً نديَّ التردُدِ
كما أنتَ في دنياي قلعةُ آمنٍ
وخيمةُ أضيافٍ وأهلٌ لقاصدِ
لقد كان سباقاً إلى كل خلةٍ
مِن الخير لا يلقى النِدا بالترددِ
وكان محباً للقريبِ وإنْ جَفا
وكان رؤوفاً بالبعيد المهدَدِ
يَبيتُ إذا ما الناسُ دثَّرها الكرى
يؤرقُهُ بؤسُ الطريدِ المشرَّدِ
ويُضنِيهِ أنْ يَبقى على الأرضِ جائعٌ
وتشقيهِ آلامُ الأسيرِ المقيَّدِ
إذا جاءهُ الساعي لتفريج كربةٍ
تلقاهُ في بِشرٍ لقاءَ تَودُدِ
وإن أنفقتْ يمناهُ إنفاق موسرٍ
فما درتِ اليسرى بإنفاقِ راشِد
وما كانَ ذا مالٍ كثيرٍ ولا غنى
ولكنهُ معطٍ لما جَال في اليدِ
لقد أظلمتْ دنيايَ بعدكَ وانطوى
بساطُ الهنا عنِّي وفارق مُسعدِي
يقيناً لقد غابَ الضيا عَن محاجري
وفارقني سَعدي وجفَّتْ مَواردِي
أتغتالني كفُّ الرحيلِ ولمْ نزلْ
وجذوةُ قلبينا اشتعالٌ بموقدِ
سأبكيهِ عُمرِي ما حييتُ لما مَضى
وما زان وقتي من خِلالٍ و محتَدِ
يُعذبني يومي وأشقى بأمسهِ
ويسلمني يومي إلى الحزنِ في غدِ
فلو راحلٌ يُفدى لكنتُ افتَديتُهُ
بنفسي وما أُغلي وما ملكت يدِي
أناجي القبورَ الغافياتِ ومهجتي
على جدثٍ قد ضمَّ أُنسي وسؤددِي
أناجيكَ في لونِ الغديرِ إذا صَفَا
وألقاكَ في إشراق قنديلِ مسجدِ
وأصغي إلى همسِ النسيمِ كأنني
لدى وشوشاتِ الحبِّ أصغي لمنشدِي
وأستنطقُ الوردَ الشذيّ وقد حكى
خلالَك في نَشرِ العبيرِ المبدَّدِ
فأرجعُ لا قلبٌ يقرُّ قرارهُ
ولا الصبر في ليلِ العذابِ بُمسعدي
عدمتُ الوفا إن أسلمتني يدُ النوى
لسلوةِ يومٍ أو سرورٍ بمشهدِ
وإنْ طابَ لي صفو الحياةِ ولينها
واغفاءةٌ في أعينٍ لمُ تسهَّدِ
أغالبُ أحزاني العطاش إلى البُكا
فيغلبني حزني وينأى تجلدي
سأبكيك ما أحيا بحرقةِ والهٍ
ولوعةِ ذي ثكلٍ وثكلى بواحدِ
وإن كان لا ثكلٌ كثكلي في الورى
ولا حرقتي مرَّتْ بجفنٍ مسهَّدِ
أناجيكَ بالودِّ الذي كان بيننا
وبالأفقِ الأسمى وبالخلق النَدِي
وألصقُ خدِّي بالترابِ لعلني
أشمُّ شذا إنشادِ بيتٍ مغرِّدِ
يمزِّقُني دمعٌ بمقلةِ فارسٍ
يُسائلني أيَّانَ يرجعُ والدي
وتحرقني آهاتُ أختٍ لفارسٍ
تفتِّشُ في كلِّ الزوايا لتهتدي
إلى موضع تلقى أباها معانقاً
كما رفتِ الأزهار في روضِها النَدِي
محبُّوكَ غرقى بالدموعِ وحزنُهم
طويلٌ كما أحزانها أم واحدِ
إذا ما تنادوا للقا عصفتْ بِهم
لواعجُ تستدعي الهمومَ وتبتدِي
وإنْ عُقدتْ بالمنتدى الرحبِّ ندوةٌ
فما أوجع الذكرى على قلبِ مُنتدِي
تعبتُ وما في الكأسِ فضلٌ لشاربٍ
وما في النديِّ السمحِ صوتٌ لمنشدِ
عليكَ من الله الرضا وسلامُهُ
وحفَّتْ بكَ البشرى تروحُ وتغتدِي
ومدَّ عليكَ اللهُ ظلَّ اصطفائهِ
بما قد وقفت النفس موقف مُنجدِ