د.عبد الرحمن الحبيب
كان حلفاء أمريكا أيام بوش ينصحونها بالتهدئة وعدم التهور، صاروا مع أوباما يحثونها على الحركة وتغيير تعاملها السلبي شبه المتفرج.. وفي منطقتنا العربية يطالبونها بوجود جنود تابعين للتحالف الدولي على الأرض لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعدم ترك العراق لإيران.
بينما أمريكا تطالب حلفاءها بإستراتيجية الصبر! فما هي الإستراتيجية الأمريكية الجديدة؟ أوباما -المشغول بالهم الداخلي- اعترف الصيف الماضي قائلاً: «حتى الآن لا توجد لدينا إستراتيجية»، للتعامل مع داعش، فتكالبت عليه الإدانات من كل صوب. رئيسة لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ ترى أن الإدارة الأمريكية حذرة أكثر من اللازم، في حين قال نظيرها بمجلس النواب أن الإدارة لم تدرك حتى الآن خطورة المشكلة. إذ يمكن للمرء التسامح مع أي إستراتيجية مهما كانت، لكن ليس مع لا شيء! حسب قول رئيس مركز الأمن الأميركي الجديد (ريتشارد فونتين).
أما الضربات الجوية على داعش فهي تمثل مناورات تكتيكية بلا إستراتيجية. فالتحالف الدولى الذى تقوده أمريكا بالعراق وسوريا ضد تنظيم داعش شن 1849 غارة جوية، منها 841 غارة في العراق خلال الفترة بين 7 أغسطس و30 ديسمبر 2014 (وول ستريت جورنال)، أي حوالي خمس غارات يومياً، ولنقارنها مع أكثر من 29 ألف غارة خلال العشرين يوماً الأولى لغزو العراق عام 2003 (تقرير للقوات الجوية الأمريكية) أي حوالي 1500 غارة يومياً!
ما هو رد المسؤولين الأمريكان على تلك الانتقادات؟ إن لديكم تصوراً مبالغاً فيه عن الآثار التي يمكن أن تنتج عن التدخل الأميركي من أجل توحيد العراق، حسبما ذكر المسؤول الأمني الأمريكي جوناثان ستيفنسون مطالباً بالصبر الإستراتيجي، ومضيفاً: أن الإيمان «بالصبر الإستراتيجي» ينبع من الرئيس أوباما نفسه.
كبار مسؤولي البيت الأبيض والبنتاغون مصممون على إظهار «صبر إستراتيجي» محذرين من الاستدراج إلى حرب أهلية جديدة في العراق. وأحياناً يشيرون إلى عدم الرغبة في السحق السريع لداعش، لأنه سينتج فراغاً سريعاً لا يستطيع الجيش العراقي ملؤه؛ ليظهر تنظيم إرهابي آخر.. وقال عسكري أميركي رفيع: «الرسالة للعراقيين كانت يجب أن تقوموا (بهذه المهمة) بأنفسكم.. لا يمكننا حلها لكم».
المسؤولون العراقيون أيضاً -بعدما كانوا يناشدون التدخل الدولي- صاروا يقولون إنها معركتهم المستقلة السيادية، وهم من سوف يخطط لها ويديرها وينفذها، لكن الجيش العراقي يمثل نحو ثلث القوة لتحرير تكريت من قبضة «تنظيم داعش» بينما البقية مليشيات بعضها تأتمر بأمر إيران!! فأين الاستقلالية؟.. لكن ليس هذا سؤال المقالة، فلنعد إلى الإستراتيجية الأمريكية.
أفضل مصدر لتحديد الإستراتيجية الأمريكية هو وثيقة «إستراتيجية الأمن الوطني» الأمريكية. الوثيقة الصادرة عام 2002 بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وضعت عقيدة «الحرب الوقائية» المثيرة للجدل التي استخدمت لتبرير غزو العراق. لقد ظهرت عقيدة بوش في سياق الانتقال من عقيدة الحرب الباردة وهي إستراتيجية الردع إلى المحاولة الاستباقية للسيطرة على التهديد الجديد القادم من الجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة، مع تهديدات الدول مثل العراق أو إيران وفقا للوثيقة.
لكن وثيقة 2010 أظهرت انتقالا درماتيكيا على حد قول سوزان رايس السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة. تمثلت هذه الإستراتيجية في أربعة محاور: زيادة المشاركة مع روسيا والصين والهند، عدم الانتشار النووي وتغير المناخ، أمن أمريكا يعتمد على إنعاش اقتصادها، وأخيراً إزالة عبارات مثل «التطرف الإسلامي»، والتحدث بدلاً منها عن الإرهاب عموماً.
أما الوثيقة الحالية التي صدرت الأسبوع الماضي فتطرقت إلى تقديم «رؤية وإستراتيجية للنهوض بمصالح الأمة، والقيم العالمية، ونظام دولي قائم على قواعد من خلال القيادة الأمريكية القوية والمستدامة.» الوثيقة تحذر من العمل الأمريكي الأحادي، ومن مخاطر الإفراط في ردّ الفعل نتيجة القرارات المبنية على الخوف.. وتأتي الجملة الّتي أثارت الكثير من الجدل: «إن التحديّات الّتي نواجهها تتطلّب صبرًا ومثابرة إستراتيجية». عدنا هنا إلى الصبر الإستراتيجي، ويطلقون عليها أحياناً معركة النفس الطويل مقارنة مع أسلوب «الصدمة والرعب» الذي اتخذته إدارة بوش.
الإستراتيجية الأمريكية الحالية يعارضها محللون أمريكان كُثر أمثال هنري كيسنجر، ووالتر راسيل ميد وروبرت كابلان، طارحين مسألة عودة الجغرافيا السياسية، وسماها الأخير «انتقام الجغرافيا»، فالعدوان الروسي على أوكرانيا، وانهيار نظام الدولة في بعض مناطق الشرق الأوسط، والنزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، والنووي الإيراني، ليست سلسلة من الأزمات المعزولة؛ بل هي جزء من النظام الدولي الحالي الّذي تأسس وفقًا لمعايير القانون واحترام السيادة، وتوسيع التجارة بدعم من القيادة الأمريكية المهدّدة في أساساتها من قبل القوى الرجعية حسب تعبير هؤلاء المحللون.
قبيل نشر الوثيقة بيوم طرح ريشارد فونتين ونائبه شون بريملي أن أمريكا بحاجة لإستراتيجية تتمثل بخمس ألوليات: هزيمة داعش، معارضة العدوان الروسي بالجمع بين الردع مع طمأنة الحلفاء، وقف انتشار التطرف العنيف في إفريقيا وأوروبا، وتأمين الفضاء الإلكتروني، وتطوير الطاقة المستدامة.
أيضاً، ثمة معارضة داخل الحزب الديمقراطي، فقد حرصت هيلاري كلينتون مع بعض الديمقراطيين على النأي عن بعض مواقف البيت الأبيض، داعمة المشاركة في الحرب بالعراق، ومتخذة مواقف قريبة من الصقور الجمهوريين حول مواضيع مثل إسرائيل وسوريا والملف النووي الإيراني؛ فلم يعد الإستراتيجيون الديمقراطيون مترددين في الابتعاد عن الرئيس.
هل أصبح البيت الأبيض معزولاً على نحو متزايد، كما تتساءل لوموند؟.. ربّما، ولكنّ الرئيس أوباما لا يزال صاحب الكلمة الأخيرة في وضع الإستراتيجية للسنتين المقبلتين. أما أنصار أوباما فيؤيدون لعبة النفس الطويل ضد النفس القصير ويطالبون بمقاومة الانجراف مع انفعالات الضغط الإعلامي، والوقوع في فخ التهويل.. يبدو أنهم مشغلون بقضاياهم الداخلية التي أظهرت بها سياسة أوباما جرأة وحيوية على خلاف سياسته الخارجية.
الإستراتيجية ببساطة هي أنها ترتب الأولويات، ثم تحدد الأهداف، ثم خطوات تحقيقها، ثم الموارد اللازمة لتنفيذها. بينما أهداف الوثيقة الأمريكية الحالية تميل إلى أن تكون واسعة ومجردة وبلاغية أكثر من كونها عملية. هذا يذكر بمقولة الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور التي أصبحت شعاراً للبراجماتية الأمريكية: «الخطط قليلة القيمة ولكن التخطيط هو كل شيء».. فإذا كان بين التخطيط والتخبيط حرفاً واحداً فإن بين الصبر والسلبية خطوة واحدة كما قالت لوموند.