إبراهيم عبدالله العمار
رأيت برنامجاً أمريكياً منوعاً ذات مرة، وفي إحدى الفقرات ذهبوا للشارع وحاوروا أناساً، وكان السؤال: ماذا أنت مستعد أن تفعل مقابل 5 دولارات؟ فأما البعض فكان يعرض أشياء بسيطة مثل أن يغني أو يرقص، والبعض قال إنه سيفعل أكثر من هذا، حتى وصل الأمر أن يقوم بعض الناس بلعق حذاء المحاور مقابل هذا المبلغ البسيط!
في الموضوع السابق رأينا اكتشافاً في علم النفس اسمه التجهيز، وهو تأثير عوامل على العقل الباطن بدون شعور ولكن يظهر تأثيرها على العقل الواعي، فمثلاً عندما توشك أن تبدأ حصة تمارين رياضية وتشاهد صوراً أو مقاطع لنخبة من أفضل الرياضيين فإن هذا يمكن أن يحسن أداءك الرياضي، وأما إذا شاهدت صورة رياضي عادي غير متميز فلن يكون لها نفس التأثير. ورأينا في الموضوع السابق نماذج أخرى من هذه الظاهرة العجيبة، لكن اليوم أريد أن نتأمل تأثير المال.
من المخيف رؤية تأثير المال على الناس، وبالذات الأمم التي تعيش من أجل المال مثل الغربيين وخاصة الأمريكان الذين نبعت دولتهم وثقافتهم للمال أصلاً، ويعيش الأمريكي في قِدرٍ يغلي بأبخرة الاستهلاكية والشراء وجمع المال، ويقلقني أن أرى مظاهر الاستهلاكية وحب المال في مجتمعنا، لأن عشق المال لا يؤدي لخير، فرغم أنه من الطبيعي أن يحب الشخص المال إلى درجة معينة إلا أنه من السيئ أن ينجرف وراءه حتى يصير هو شغله الشاغل ولا يؤدي حقه الشرعي، وقد أتى في العلم الحديث كشوفات كان فيها بعض المفاجأة، كما أفاد كتاب «التفكير البطيء والسريع» للعالم النفسي دانيل كانمان، فمما علِمناه في زمننا أن التجارب أظهرت أن التجهيز بالمال يجعل الشخص أسوأ طباعاً.
من ذلك تجربة كان على المتطوعين فيها أن يشكّلوا جُملاً من كلمات عشوائية وكان في الكلمات أشياء متعلقة بالمال، ووضعوا جملاً مثل: راتب عال. تجهيزات أخرى كانت أقل وضوحا مثل أناس يكون في غرفتهم أموال منوبولي أو شاشة توقف («سكرين سيفر») على هيئة علامات دولار. النتيجة أنهم صاروا أكثر أنانية: صاروا أقل رغبة في مساعدة طالِبٍ تظاهر بالحيرة نحو فهم المسألة. طالب آخر تظاهر أنه أسقط أقلاماً بالخطأ وكان أهل المال أقل مساعدة له من غيرهم. تجربة أخرى: قال لهم الباحث أنه سيعرّفهم على شخص آخر وأن المتطوع سيجلس معه ليحادثه ويتعرف عليه، فكان أهل المال اختاروا أن يجلسوا أبعد، فالباحث طلب منهم أن يأتوا بكرسيين بينما يذهب هو يحضر الشخص، والذين جُهِّزوا بالمال باعدوا بين الكرسيين، والفرق في المسافة بين الكرسيين (مقارنة بمن لم يجهَّزوا بالمال) 80 سم مقابل 118 سم. أهل المال –عموماً– كانوا أقل رغبة في الاختلاط بالناس أو الاعتماد عليهم أو قبول طلباتهم. هذه تجارب عشوائية تنطبق نتائجها على أي شخص.. علي وعليك.
كاثلين فوس هي الباحثة المسؤولة وتجاربها تُظهر أن العيش في مجتمع دائماً يجهزك بالمال يشكل نفسية وتصرفات المجتمع بطريقة غير مرغوبة. هناك مجتمعات تشكر أبناءها دائما بالاحترام، وهذا ينعكس لا شعوريا على تصرفات الناس فيصبحوا أكثر تعاوناً ولطفاً مع الناس، أما مجتمعات المال فتتجه عكس ذلك.
هذه التجارب أظهرت أنه من الأفضل أن نكون أكثر حذراً في تعاملنا مع المال، ويستحسن أن لا يكون المال أو صور المال منتشرة في المنزل أو العمل أو الأماكن العامة لأنه يؤثّر جبراً علينا بدون أن نشعر ويجعلنا أسوأ طباعاً.