د.موسى بن عيسى العويس
* في المملكة العربية السعودية الحراك الفكري والثقافي نشط، تلمسه في مجالات متعددة، السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والتعليمي، والثقافي، والصحي، والبيئي إلى درجة حد الإفراط، ودائما الخطط التنموية الطموحة والكبرى تقود بمتطلباتها مثل هذا الحراك الذي يتيح لأصحاب القرار الاستفادة من أصحاب الخبرات والتجارب العريقة المتنوعة، ولاشك أن جزءاً من بعض المشاريع العملاقة نتيجة بعض أطروحات تلك الملتقيات، وما يتداول فيها، ما بين مؤيد ومعارض.
* صحيح أن العلوم التطبيقية القائمة على التجربة نصيبها ثانوي من تلك المؤتمرات والندوات في البلدان العربية بشكل عام، لأنها تحتاج في التطبيق إلى محكات عملية، وبالتالي قد ينكشف الرغو من الصريح لكل ما يطرح، فأصبح التصدي لتلك العلوم من الدول المتقدمة حصرياً، وهم بلا شك أصحاب الريادة، والسيادة، والاحتضان. والعقلية العربية، والبيئات التي نشأت فيها ميّالة بطبيعة الحال، ومنذ أقدم تاريخها إلى العلوم اللسانية والإنسانية، القائمة على فن الجدل، والمنطق الفلسفي أحيانا، إذ إنها لا تكترث بالناتج العملي.
* بخلاف المعارض التي تنتقل من خلالها بعض التجارب أصبحت المؤتمرات والملتقيات اليوم في بلادنا جزءا من الترف والترفيه، المستهلك للرأي، والمستخف بالعقل أحيانا، وهنا مكمن الخطورة حينما تغيب الأهداف والغايات، بل والقيم الوطنية عن أي عمل، فيصبح هذا النشاط جزءا من الهدر للوقت والمال. وهنا يمكن تفسير أسباب العزوف عن الحضور عن الأنشطة المنبرية التي أصبح الحضور فيها محصورا بمراسم الافتتاح، والصور التذكارية، وتقديم ما يمليه واجب الضيافة التي قد لا تستغرق أكثر من نصف ساعة، بعدها تطفأ الأنوار، وتجفف الأقلام، وتطوى الصحف، وتركن الملفات، وتشد الأمتعة والأحزمة استعداداً للرحيل، أو استكمال الجانب الترفيهي من البرنامج، والاسترخاء بعض الوقت على إيقاعات (كم تذكرت سويعات الأصيل....).
* من الصعب جداّ أن تطلب من مثل تلك المؤتمرات الدولية قرارات ذات نفوذ، لأن طبيعة ما يطرح آراء فردية، ولا يمثل في بعض الصور وجهة نظر المؤسسات، أو لجان قد يكون لبعض مرئياتها حق النفاذ. ومع ذلك فإن الشيء غير المتوقع أن تخرج مؤتمرات تضم أطيافا وخبرات متنوعة مثرية للقاء بدون توصيات معلنة قابلة أن يبنى عليها بعض الإجراءات العملية المستقبلية، ذات الصلة بالمحاور والموضوعات المطروحة. أدرك تمام الإدراك أن بعض الجهات المنظمة، أو المسؤولين باتوا يتخوفون من أي رأي، أو توصية قد يفهم منها الالتزام من تلك الجهة بموضوع تقطعه على نفسها، أو أن التنفيذ مناط بجهات أخرى، لا تمتلك الجهة المنظمة حق إلزامها،أ وتأويل وبتر التوصيات من وسائل الإعلام، وبالتالي دفعا للحرج، ومن باب المجاملة تذوب الغايات والأهداف، وتضمحل القيم.
* الجهات العليا، ومن باب الإنصاف لم يغب عنها الهدر في الجهد والمال المتوقع في مثل تلك المؤتمرات، فحاولت تنظيميا أن تؤطر، وتنظم، وترشد هذه الأنشطة من خلال تعليمات سامية تكرر تعميمها، وأوكلت إلى الجهات الرقابية متابعة مثل هذه الأنشطة، وأعتقد أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بوصفها تتابع تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ولآليات تقييمها، ولها حق المساءلة والتحقق، وحماية المال العام، واقتراح تطوير الأنظمة هي الأقرب والأكثر والأجدر،بل والأكفأ من غيرها من الجهات الرقابية الأخرى على دراسة واقع هذه المؤتمرات والندوات والملتقيات الدولية، واللوائح التنظيمية لها، سواء كانت مالية، أو إدارية، ولها أن تعقد لذلك -بالتعاون مع الجهات الرقابية، وبالذات ديوان المراقبة العامة، والمؤسسات الحكومية، وشركات القطاع الخاص- ورش عمل، وحلقات نقاش مستديرة، لوضع آليات تحد من الهدر الناجم من بعضها، والمحاسبة على النتائج، بل وتقترح الحوافز للأفكار البناءة التي تكون نتاجا لمثل تلك المنتديات والملتقيات، وبتلك الإجراءات العملية يتحقق تجفيف منابع الهدر، وتعزز غرس قيم السلوك الوظيفي المنشودة، ونعطي رسالة صادقة واضحة للمواطن والمقيم على قدرتنا على تحمل المسؤولية المناطة بنا.