محمد بن عيسى الكنعان
الشعور الغربي المستمر بالتفوق الحضاري على الأمم، بحكم سيادة حضارته عالمياً، وتأثيرها في حياة الشعوب؛ بعناصرها الثقافية، ومنتجاتها المادية، ونفوذها السياسي في المنظمات والهيئات الدولية، وتأثيرها الاقتصادي في الأسواق العالمية. إلى جانب دورها الفكري في صياغة بنود المواثيق الدولية. هذا الشعور الذي يخالج الإنسان الغربي، سواءً كان مسؤولاً، أو إعلامياً، أو مثقفاً، أو حتى فرداً عادياً؛
نشأ بحكم ارتهان الغرب للحظته التاريخية الحضارية، وهي اللحظة التي تجعل الإنسان الغربي يتصور أن حضارته أصبحت بلا منازع هي (المعيار الأمثل) لحياة البشر. أو بشكل أكثر دقةً (المعيار الحضاري النموذجي) الذي تقاس عليه كل أساليب ونظم الحياة.
لذلك؛ فكل النظم الأخرى، والثقافات المختلفة، والنماذج الحضارية للأمم، سواءً الغابرة أو الحاضرة تبقى في رؤية هذا الإنسان أنها دون الحضارة الغربية، فهي أما متراجعة عنها أو متخلفة قياساً بها، وبالتالي عليها أن تقتفي أثر حضارة الغرب المتفوقة؛ وتطبق مبادئها الأساسية وعناصرها الثقافية، وفق فلسفتها لتحقق القيم الإنسانية، ومن ثم يمكن اعتبارها أمماً راقية وشعوباً متحضرة. من هنا ينشأ الموقف الغربي (الرافض) لأية فكرة، أو قيمة، أو ممارسة حضارية لا تتسق مع فلسفة الليبرالية الغربية التي يؤمن بها، ونزعته العلمانية التي يتعامل بها، وتشكل اليوم لبَّ حضارته. فعلى سبيل المثال؛ لا تعد ديمقراطياً ما لم تتعامل بالمفاهيم والأدوات والأساليب نفسها، التي يعتمدها الغرب في نظمه الديمقراطية، وقيمة الحرية لا تتحقق للإنسان بشكل كامل؛ ما لم ينزع عن نفسه كل هيمنة أو مرجعية غير مرجعية وسلطان العقل، وبالذات الدين والعادات والتقاليد الاجتماعية. ولهذا فمن الطبيعي أن يتوجس الغربي، بل ويرفض القيم الإسلامية، أو حتى الممارسات والتفاصيل الحياتية، التي تتم وفق مرجعية إسلامية، أو تنسجم مع قيم الإسلام - باعتباره ديناً أساساً - كالتالي تتعلق بالأحوال الشخصية، أو الأحكام القضائية المستمدة من القرآن والسنة، أو الشؤون التعليمية المحكومة بعلاقة الدين بالعلم، أو العلاقات الاجتماعية بكل تجلياتها وبالذات ما يخص العلاقة المفتوحة أو المحكومة بين المرأة والرجل، أو غيرها مما يتقاطع مع حياة الفرد المسلم، وبالذات المسلم الغربي سواءً كان أصيلاً أو مهاجراً في بلاد الغرب.
واللافت في هذا الشأن أن الحياة الغربية رغم طغيانها المادي لم تستطع أن تجرف هذا المسلم (الغربي أو المهاجر) إلى التعامل بقيمها الليبرالية ذات النزعة المادية والرؤية العلمانية، بل العكس هو ما يحدث؛ فالإنسان المسلم في بلاد الغرب نجح في اختراق المنظومة الاجتماعية للحياة الغربية، بحيث تكون قيمه الإسلامية وتصرفاته الحضارية نمطاً موازياً ومؤثراً في الواقع الغربي، عندما استطاع أن يمارس عباداته وينجز معاملاته دون أن يكون الدين عائقاً لذلك، بمعنى أن ارتباطه بدينه لم يؤثر سلباً على حركة الإنتاج التي ينخرط بها، أو علاقاته الاجتماعية المتنوعة التي يشكلها، أو اهتماماته الثقافية التي يمارسها، أو بشكل عام إيقاع الحياة الغربية التي يعيشها، ولهذا نجد أن الغربيين أنفسهم أصبحوا أمام نموذج حضاري جديد يتشكل في حياتهم اليومية، نموذج حضاري يوازن بين الروح والمادة، بين الدين والحياة، بين العلم والغيب، نموذج يحمي الفطرة، ويعلي من شأن العقل، فانعكس ذلك إيجاباً على معدلات انتشار الإسلام المتنامية بشكل كبير خلال العقود الأخيرة في البلدان الغربية بشقيها (الأمريكي والأوروبي). هذا الانتشار الذي أصبح ملحوظاً في الغرب هو ما يكرِّس حالة ارتهان الغرب للحظته التاريخية، وبالتالي يستمر في فرض (معياره الحضاري) على الآخرين. كونه يشعر أن نموذجاً حضارياً آخر صار يقدم قيمه للغربيين ليس بطبيعته الدينية، إنما بسماته المدنية واعتباره منهج حياة شاملاً، حيث جد فيه المسلمون الغربيون كل إجابات أسئلتهم المحيرة المتعلقة بحياتهم، فضلاً عن حقيقة الهدف من وجودهم الكوني، والوصول إلى السعادة والراحة النفسية.
وبرأيي أن سيطرة اللحظة التاريخية على العقلية الغربية هي ما دفع وزيرة خارجية السويد إلى انتقاد أحكامنا القضائية، لأنها أخضعت رؤيتها للقضاء السعودي لـ(معيارها الحضاري)، القائم على سيادة قيم ومبادئ الحضارة الغربية وفقاً إلى فلسفة الليبرالية، بحكم أنها ترى استمرار تمسك السعوديين بقيمهم ونظم حياتهم المستمدة من دينهم، هذا الدين العظيم الذي يشكل اليوم النموذج الحضاري الصاعد في الحياة الغربية المعاصرة. وهذا ما أدركه الدكتور روان دوجلاس ويليامز كبير أساقفة كانتربري وزعيم الكنيسة الأنجليكانية (الكنيسة الرسمية ببريطانيا) عندما صرح بوجوب تضمين القانون البريطاني بعض بنود الشريعة الإسلامية، لأنه أمر لا يمكن تجنبه، وأن النظام القضائي البريطاني سيتعين عليه يوماً ما أن يعترف ببعض جوانب الشريعة الإسلامية.
لكن فات على الوزيرة السويدية أن تدرك أن القضاء السعودي الذي انتقدته، لا يعتبر من صور (المشترك الإنساني) كالصناعة، ونظم الإدارة، والطب وغيرها، التي يمكن نقدها أو تبديلها بما لدى الآخرين أو تبادل التجارب معهم بشأنها، لأن القضاء بالأساس خاضع لمرجعية مرتبطة بنظام الدولة الأساسي، وهذا النظام محكوم بطبيعة الدولة نفسها. ولأن السعودية ليست دولةً علمانية، لذا فأحكامها القضائية مستمدة من شريعة الإسلام، وبالتالي اعتبرت تصريحات الوزيرة تعدياً سافراً على الإسلام وانتقاصاً من السيادة السعودية.