أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن الإسلام دين اختاره الله واصطفاه وكمّله وضمّنه ما يحتاج إليه البشر, يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. فما من خير إلا ونجده بأوفى وأتم وأشمل صورة، ومن من شر إلا وقد جاءت الشريعة بالمنع منه، ولهذا فإن الاستقامة على هذا الدين أساس الفلاح والنجاة، والسعادة والطمأنينة في أمور الإنسان الدينية والدنيوية، ومما انتظمته شمولية هذا الدين، مكانة الأوطان والدفاع عنها، والاستبسال في ذلك، بل والتضحية في هذا السبيل، فمما لاشك فيه أن انتماء الإنسان وافتخاره بوطنه واعتزازه به بكل جوانبه يعد غريزة فطرية تعيش مع الإنسان, ولا يمكن أن تفارقه بأيّة حال, ولذلك نرى أن هذا الإنسان في أي مكان يدافع عن وطنه, ويحاول بذل جهده في صد من يرومه بعداء كائنًا من كان, وإن كلفه ذلك ذهاب نفسه, فما بالنا إذا كان البلد إسلاميًا، ويطبق فيه شرع الله، ويتميز بحماية عقيدة الإسلام غضة طرية كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله?, إنها بلد التوحيد: المملكة العربية السعودية, مهبط الوحي, وموئل الإسلام, ومأرز الإيمان, ومهوى الأفئدة, بلاد اصطفاها الله واختارها بلدًا لهذه الرسالة الخاتمة, فالانتماء إليها شرف ومسؤولية, والدفاع عن حقوقها أمر في غاية الأهمية, والمسؤولية تجاهها تفوق أي مسؤولية، ولهذا فإن ما هيأ الله له ولي أمرنا ومليكنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- من موقف النصرة، ووقفة الحزم، وتأييد للشرعية، ومواجهة التحديات والتهديدات التي تستهدف هذا الوطن العزيز والبلاد المقدسة المملكة العربية السعودية موقف يشكره كل مسلم، وهو نابع من تحمل المسؤولية والقيام بالأمانة العظمى، لا لأنه دفاع عن وطن فحسب بل لأنه دفاع عن العقيدة والدين ومقدسات المسلمين، وحماية هذه المقدسات من أن تطالها أيدي الظلم والغدر.
ورجال أمننا وأبطالنا البواسل الذين شرفهم الله بأن جعلهم أعيننا ساهرة على أمن بلاد الحرمين وقيضهم للمرابطة على هذه الثغور هم محظوظون وبنصر الله مؤيدون، يدفعهم إلى هذه المرابطة حراسة المقدسات، وحماية الممتلكات والدفاع عن الوطن الإسلامي، وكلها عوامل إذا اجتمعت جعلت المشاركة شرفاً وفخاراً، وجهاداً في سبيل الله ولست بحاجة إلى الاستدلال على حماية المقدسات فهي أشهر من أن تذكر، بل هي غاية من غايات الجهاد المشروع، وكذلك الدفاع عن الوطن من الغايات الشريفة، والأهداف النبيلة، والمقاصد الشرعية للجهاد، ولقد دلت النصوص الشرعية على اعتبار حب الوطن والدفاع عنه غريزة فطرية جُبل عليها الإنسان، وأن هذا من الحقوق الطبعية التي يشرع الدفاع عنها، كما أنه يشرع الدفاع عن النفس والمال، والنفس لا يمكن تصورها من دون مكان يعيش فيه الإنسان ليدافع عنه.
وقد ورد في الحديث عند أبي داود وغيره: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه، فهو شهيد). وورد أيضاً بلفظ عام: (من قتل دون حقه فهو شهيد)، ومن حق الإنسان أن يعيش كريماً في وطنه، وورد بلفظ آخر: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد)، وقد اجتمع الأمران وغيرهما في حملة النصرة، وعاصفة الحزم التي أثلجت الصدور، وأقرت الأعين، فهي دفاع عن الدين والوطن، ونصرة للمظلوم، ورجال أمننا بحاجة إلى تأصيل هذه المشاركة لتثير هممهم، وترفع معنوياتهم، وتشحذ عزائمهم، فيقدمون كما هو واقعهم، مستبسلين مدافعين، ولو كان ذلك فيه فوات النفس، وقد جعل الله سبحانه الظلم الواقع بإخراج الإنسان من وطنه ومرابعه ودياره سبباً للجهاد المشروع.
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، فتبين أن من أسباب مشروعية الجهاد دفع الظالمين المعتدين على الأنفس والأوطان والحرمات، وأن من قاتل دون هذه المظالم بناءً على الحديث فهو شهيد.
كما أن المتأمل في نصوص الجهاد المبينة لغايته، المثبتة للأحكام المترتبة عليه يجد أن التركيز على العدوان على الأوطان، وإخراج المسلمين منها من الأسباب الرئيسة للقتال والجهاد، فمثلاً قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وقوله سبحانه وتعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وإخراجه يكون من وطنه وبلده, وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّين وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تُوَلُّوهُمْ} والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وفي قسمة الفيء الذي يكون نتيجة للقتال بيَّن الله تعالى أن من المستحقين له من أخرجوا من أوطانهم؛ فقال سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}.
فهذا الجمع من النصوص يبين بجلاء أن الدفاع عن الوطن دفاع مشروع، وغاية حميدة، ومقصد ديني من مقاصد الجهاد، وهو عند التأمل لا يخرج عن قول الرسول?: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، لأن علو كلمة الله، ونشر دين الله، إنما تتم حين يتحقق الوطن الذي يكون منطلقاً لهذه الأنشطة والتصرفات التي تخدم الهدف الأساسي، وهو في عموم الأوطان، فكيف إذا كان هذا الوطن إسلامياً، وكيف إذا كان أصل بلاد الإسلام؟.
ومن يتأمل كلام الفقهاء -رحمهم الله- سلفاً وخلفاً يجد أن حماية الثغور، والمرابطة فيها، والدفاع عن بلاد المسلمين صورة من صور الجهاد المشروع الذي يكون المقاتل فيه مجاهداً في سبيل الله، وإن قتل في هذا المجال كان شهيداً -بإذن الله- وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح: رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً مات مجاهداً، وجرى عليه عمله، وأجري رزقه من الجنة، وأمن الفتان» أ.هـ.
وقريب منه ما قاله علماؤنا المحققون كسماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-, وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-, وغيرهم. ومن هنا فإنني أوجه كلمة إلى رجال أمننا البواسل، وصقورنا الخصر، فأقول لهم: وفقكم الله وسددكم، وثبت أقدامكم، وسدد رميكم، أبشروا وأملوا فوالله أنكم لفي ميادين العز والشرف، وفي عمل صالح من أفضل الأعمال، وقد رأيتم النصوص الشرعية التي تظهر مكانة عملكم ومرابطتكم وجهادكم، فأنتم تجاهدون دون دينكم ووطنكم، تحت راية ولي أمر مسلم، استنفركم لهذه الغاية فقيامكم بذلك عبودية لله، وطاعة له وقياماً بحق الولاية استجابة لقوله سبحانه: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فعليكم باستحضار هذه النية المباركة، ورجاء أجر الرباط الوارد ذكره في الأحاديث النبوية فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان. رواه مسلم، ومما يحسن التذكير به في هذه الظروف التوكل على الله، وصدق الملجأ إليه، والاعتماد عليه، فهو الذي يعز من يشاء، وهو الذي ينصر أولياءه، وأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، واليقين بوعد الله من أسباب تحقيق النصر، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}وقال تعالى: {يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فلنسأل الله النصر على الأعداء ونلح عليه في الدعاء، ولا نغتر بكثرة أو قوة، ثم إنكم تدافعون عن بلاد الحرمين، مهوى أفئدة المسلمين ومأرز الإيمان، وذلك نصرة للمظلوم ودفاعاً عن أهل السنة، فالله الله في التأدب بأدب المسلم، وحفظ الأسرار، وبذل الجهد، وقد رأى العالم وسمع ولله الحمد والمنة قصصكم البطولية وتضحياتكم العظيمة في سبيل رفع كلمة التوحيد، والدفاع عن أشرف البقاع على وجه الأرض، وذلك من عاجل بشراكم، وإخوانكم في هذا الوطن وغيره يستشعرون عظم المهمة التي تقومون بها، وحقكم علينا أن ندعو الله لكم في السراء والضراء، والسر والعلن، أن يمدكم بمدد من عنده، ويدد رميكم، ويحفظكم في أنفسكم وأهليكم، وأن يجعل عملكم الصالح زادكم إلى رضوان الله وجنته، كما نحتسب على الله أن يكون ذلك كله في موازين حسنات إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وأن يحفظ بلادنا ووطننا وولاة أمورنا من كل مكروه.