حمّاد السالمي
مَنْ منكم يتذكر سنوات خلت ليست بالبعيدة..؟ في تلك الفترة ما كانت مجتمعاتنا تعرف التصنيف البغيض الذي ابتدعته (الصحوة - غير المباركة)، وقسمت الناس بموجبه بين (ملتزم ومنفلت)، و(إسلامي وغير إسلامي)، ثم جعلت من هذا التصنيف سيوفاً مسلولة على خصومها الفكريين، فصنفتهم إلى زنادقة، وفسّاق، ومتلبرلين، ومتعلمنين.
ومتأمركين، ومنبطحين، ومنسدحين..!! وهكذا دواليك، حتى أصبح الخطاب الديني في المنابر خاصة مطية لحرب شعواء على غير (أهل الصحوة)، الذين ما لبثوا أن كشفوا عن نواياهم ومخططاتهم في انقلابهم على المجتمع، وافتئاتهم على الدولة، وتصويرهم ردع الغزو الصدامي على الكويت والمملكة بمساعدة دولية على أنه كفر، مع أن المسافة بين أرض المعركة في الخفجي ومكة والمدينة هي بآلاف الكيلومترات.
كانت هذه - وطيلة عقدين من الزمان أو أكثر - هي الأرضية التي مهدت لمذهبة كافة الصراعات في المنطقة فيما بعد. تتذكرون أننا حتى نهاية الحرب العراقية الإيرانية ما كنا نسمع بيننا من يردد: هذا سني وهذا شيعي. كان الصراع بين العراق ومن ناصره من العرب وبين الثورة الخمينية في طهران صراعاً سياسياً، بدأ بالتحضير لتصدير الثورة، ثم بفتيل شط العرب، ثم تطور إلى حرب مدن بالصواريخ، ولكن بقية بلداننا العربية في تلك الفترة كانت تعج بلغة حربية من نوع آخر، بين أطراف سنية تتسابق ليزيح بعضها بعضاً، بهدف الوصول لقمة السلطة التي يريد.
يذكر بعض المتابعين أنه بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي شارك فيها شيعة العراق ضد إيران مع جيشهم العراقي.. في هذه الفترة كان أحد القادة الإيرانيين ضيفاً على برنامج تحليلي في قناة عربية، فسأل الضيف المذيع قائلاً: لماذا لا تنشرون عبر قنواتكم عن الخلافات المذهبية والطائفية في بلدانكم العربية.؟ رد المذيع: لا يوجد في بلداننا أي خلافات مذهبية أو طائفية. قال الضيف الإيراني: حسناً.. قريباً سوف يكون، وتنشرون عن هذا كثيراً..!
هذا هو بالضبط ما أرادته وتريده إيران، وما كانت تخطط له منذ زمن بعيد. وقد تحقق لها ما أرادت بأيدينا نحن لا بيدها..!
بعد التصنيفات الخطيرة الحادة التي مورست من قبل المتطرفين من الحركيين الصحويين في بلداننا العربية، وخاصة في المملكة والخليج. جاء دور التصنيف المذهبي والطائفي على أيديهم هم، وعلى أيدي متطرفين آخرين من المذهب الشيعي في البلدان العربية نفسها. ومن المؤكد أن هذا الاتجاه الجديد لقي هوى عند المخططين الإيرانيين الذين ينطلقون في علاقاتهم مع العرب في الجوار من منطلقات قومية فارسية، فكان الدين ومذهبة الفكر المتطرف بين السنة والشيعة هو وسيلتهم لضرب التكامل العربي في الصميم فكرياً وسياسياً، وهذا ما عشناه بشكل واضح خلال العقدين الماضيين، فقد حمل الخطاب السني المتطرف المؤدلج في الأساس روحاً عدائية شديدة للشيعة، وصعد الخطاب الشيعي المتطرف من لغته العدائية ضد السنة، حتى أصبح أبناء البلد الواحد والمدينة الواحدة وحتى الحي الواحد - وهم عرب أقحاح من أرومة واحدة - بين فريقين متخاصمين يترصد كل فريق للآخر، ويوالي كل فريق من يمد له يده حتى لو كانت بخناجر مسمومة.
لا توجد أمة ولا شعب على وجه الأرض بدون خصومات وخلافات حتى بين جماعاته وأفراده، لكن إذا تحولت هذه الخلافات والخصومات إلى صراعات دينية ومذهبية وطائفية فقل على الكل السلام؛ لأن التعصب للدين والمذهب يفوق كل تعصب، ويؤسس للكره والتباغض، ويولد الفتن، ويؤجج الحروب حتى بين الأهل والإخوة.
من هذا المنطلق أعتقد أن إيران المعاصرة تسعى لتكوين إمبراطورية فارسية على غرار ما كان في تاريخها الغابر بمفهوم قومي شعوبي، وما لغتها الدينية المتدثرة بالمذهب الشيعي سوى غطاء تخدع به أتباع هذا المذهب من العرب خاصة، وتضلل به المنبهرين بما حققته من اختراقات مذهبية وأمنية وسياسية في سوريا والعراق ولبنان، ثم تريد أن تضيف إلى هذا (الهلال العصيب) جنوب الجزيرة العربية في اليمن السعيد.
أتمنى على كافة العرب في المملكة والخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وكافة الأقطار العربية، من سياسيين ومفكرين وإعلاميين وكتاب وعلماء وخطباء وفقهاء، أن ينتبهوا جيداً إلى الفخاخ التي تنصبها إيران لجيرانها العرب، حتى تفرق بينهم، وتشتت شملهم، من خلال مذهبة الصراعات الدائرة في المنطقة منذ عقود. لقد استفادت إيران وخسر العرب من اللغة الحادة بين الأطراف الشيعية والأطراف السنية بين العرب أنفسهم، ونشهد اليوم كيف تسعى الآلة الإعلامية الإيرانية ومن تبعها من أذناب مأجورة في بلدان العرب أنفسهم، بهدف تصوير النزاع في اليمن على أنه حرب سنية ضد الشيعة. تريد أن تقول للعالم بأن المملكة ومن معها في التحالف إنما يشنون حرباً طائفية على الحوثيين المنسلخين أصلاً من الزيدية الأقرب إلى السنة، بينما الحقيقة هي حملة وقائية لوقف صراع سياسي من أقلية يمنية تريد أن تفرض سيطرتها على أكثرية يمنية، بل ترهن اليمن بكامله للإرادة الإيرانية، التي تتبجح بأن صنعاء هي العاصمة الرابعة التي سقطت في قبضتها بعد بغداد ودمشق وبيروت.
قديماً خاض العرب المسلمون (معركة ذي قار) ضد الفرس المجوسيين، ولم يكن بينهم سني أو شيعي. كانوا مسلمين فقط. اليوم يخوض العرب (معركة ذي فار) ضد (علي عبد الله صالح) وأدواته من الحوثيين الذين يقتلون الشعب اليمني باسم المهدي، وتحقيقاً لأحلام فارسية في اختراق الجغرافية العربية من جنوبها، والتحكم في المنافذ البحرية، وتهديد الأمن القومي العربي بكامله.
الحذر الحذر يا عقلاء العرب من سنة وشيعة. انتبهوا لهذه الفخاخ التي تنصب لكم مموهة بالدين والمذهب. لنجعل كافة صراعاتنا في أطرها السياسية فقط.