د. محمد عبدالله الخازم
عندما يكون الوطن في حالة حرب، يبرز حماس الوطنية، ونشعر بأننا جميعاً نريد الدفاع عن الوطن، ونريد تهيئة فلذات الأكباد لمثل هذا اليوم. ولن أقول إنه ينتابنا القلق والخوف من عدم جاهزية جيشنا الباسل، واعتقاد بعض الناس أنه سيقع في مأزق نقص الرجال الأشاوس القادرين على الدفاع عن أوطانهم. حتى المثقفون يرتبك بعضهم فتبرز لديه روح الأدلجة المعاكسة لما يطالب من أفكار حداثية وعلمية. أسوق هذه المقدمة بعد ملاحظة كثرة الطرح حول التجنيد الإجباري، وهي فكرة قديمة تزعمتها الدول ذات النزعة القومية أو الاشتراكية. لا أصادر الرأي الآخر، ففكرة التجنيد الإجباري تبدو براقة لدى بعض الناس، وأغلب من ينادي بها تدفعه ميوله وغيرته الوطنية ورغبته في أن يرى جيشاً عرمرماً يدافع عن الوطن حينما تستدعي الحاجة إلى ذلك. وبعض الناس يراها فكرة لتعليم الشباب بعض الخشونة أو التحمل البدني باعتبار أن مثل ذلك يسهم في تقوية العزيمة الوطنية لديهم.
أقدر كل ذلك، ولكن الفكرة ليست بهذه البساطة سواء من الناحية الاقتصادية أو التنفيذية، ومخرجاتها ليست مضمونة العواقب، ولن تصل بنا سوى إلى الهدر في الموارد البشرية والاقتصادية وتكريس مفاهيم بالية في منظور الدولة الحديثة. مفاهيم تجاوزناها، حين كانت فكرة التجنيد أكثر شهرة وقابلية مع بداية تأسيس بلادنا وفورة القومية والاشتراكية. فكرة التجنيد الإجباري لم يأخذ بها قادة هذه البلاد، لأن نظرتهم كانت دائماً متقدمة على جيرانهم في بناء الدولة الحديثة. بل إنه كان لنا تجربة أثناء حرب الخليج تمثلت في برامج التطوع التي نفذت، ولا أعتقد أن عائدها كان ذا جدوى في الحرب، أكثر منه بث روح الحماس والتهيئة الشعبية المعنوية.
الجيوش الحديثة ليست بحاجة إلى أفراد يتم تدريبهم على حمل البندقية أو الركض في الميدان أو الحصول على دروس في الوطنية، وهو أقصى ما يمكن أن تقدمه برامج التجنيد الإجباري التي اقترحها بعض الناس لمدة عام أو أقل. الجيوش بحاجة إلى متخصصين مهنيين وتقنيين وفنيين في مختلف الشؤون العسكرية، يتم إعدادهم في مدارس تعليمية احترافية وعلى مدى سنوات.
بعض الدول لديها ما يعرف بالجيش الاحتياط، وأفراده في الغالب سبق التحاقهم بالخدمة العسكرية أو تم تدريبهم بشكل متطور في المجال العسكري، قبل انتقالهم للعمل المدني. وفكرة الجيش الاحتياطي أقرب للواقعية، وخصوصاً إذا ما حصلت تسهيلات أكبر في إعفاء العسكريين مبكراً من العمل في القطاع العسكري مع الحفاظ على التواصل معهم ومدهم بالجديد في مجالهم كأعضاء احتياط للقوات العسكرية، يتم استدعائهم متى دعت الحاجة إليهم. الفرق بين التجنيد الإجباري وتكوين الجيش الاحتياطي، هو كون التجنيد الإجباري يحاول عسكرة المجتمع بإجبار الجميع للالتحاق ببرامج تدريبية بدائية وغير متخصصة، بينما الاحتياطي يعني ضباطاً وفنيين متخصصين سبق لهم التدرب والخدمة في مجالات عسكرية متخصصة. بل أجد فكرة الاحتياط أكثر وجاهة في المجالات الفنية، فليس بالضرورة استمرار الضابط الطبيب أو المهندس في العمل وفق الرتب العسكرية، مثلاً، بل يمكن تحولهم للعمل المدني مع تسجيلهم في القوة الاحتياطية.
ربما نحن بحاجة إلى دراسة فكرة الأفراد الاحتياط للجيش بالاطلاع على تجارب الغير في هذا الشأن. وأكرر عدم حماسي لفكرة التجنيد الإجباري خشية أن يقود ذلك إلى عسكرة المجتمع وتعليمهم القتال. أخشى أن نجني الشوك جراء تطبيق فكرة لم نحسب عواقبها، قد يجتمع فيها لدى بعض الناس السلاح مع الأدلجة والتخلف العلمي. لم تنجح الدول العربية القومية في حروبها رغم تجنيدها الإجباري لشعوبها، بل يمكن القول إن بعض ما ضر اليمن الشقيق هو اجتماع السلاح والجهل والطائفية والتخلف العلمي.