عبدالعزيز السماري
أكتب عن حرية الصحافة بمناسبة مرور يومها العالمي، وأكتب عن أزمتها التاريخية في بلاد العرب والمسلمين، وأكتب عن تلك الحرية المفقودة، وهل يمكن أن تولد في مجتمعات لا تؤمن بالحريات العامة، وهل يمكن أن تُحترم في مجتمعات لا تدافع عن حقوق الآخرين في التعبير، وإن اختلفوا معهم، أو كانوا أكثر شفافية في تعبيراتهم، فحرية التعبير كل لا يتجزأ، وإذا تم تحجيمها من جانب تحولت إلى ساحة للتحريض في الجانب الآخر، وإذا تم تقليم أدوات النقد فيها من جهة، تحول جانبها الآخر إلى جبهة تطبيل لا تحسن تقييم المرحلة، وعندما تضيع الحكمة، وتسود العواطف والمصالح الشخصية، تتحول حرية الصحافة إلى رقيق يُباع ويشترى في سوق المزايدات.
من أهم عوائق حرية الصحافة عدم وجود قانون واضح يكفل حرية التعبير، وعندما تغيب الحماية القانونية في عالم النشر والتعبير، يصبح تحديد الخطوط الحمراء تقديري بحت، ويختلف من مسؤول عن التحرير إلى آخر، وعندها يصبح التقدير الشخصي للممنوع عرضة للاجتهاد والعواطف، وتختلف تلك التقديرات من صحيفة لأخرى، وقد يجتهد بعضهم أحياناً في تمرير بعض المقالات التي يراها لا تخالف العرف غير المقنن، ثم يتفاجأ أن هناك من أبدى غضباً من الرأي المنشور لأسباب يجهلها، وبسببها يدرك المسؤول عن التحرير صعوبة وظيفته، ومع تكرار ذلك، تضيق مساحة حرية التعبير عند المسؤول، ثم يدخل مرحلة التوجس والهواجيس بعد نشر أي مقال أو رأي.
تعتبر الكتابة في المجتمعات التي لا تؤمن بحرية الصحافة والتعبير أشبه بالمشي في حقول الألغام، فهو يكتب على حافة الهاوية، وقد يقع صاحب الرأي في الممنوع الشفوي بدون أن يعلم أنه بمقاله أو رأيه أغضب شخصاً متنفذاً، وعندها يخسر كثيراً من حريته، وتبدأ حالة اخرى، والممنوع في بعض المجتمعات غير محدد الملامح، لكنه يعود في أغلبه إلى تقاطع التيارات والمصالح بين الفئات المكونة للمجتمع، وإلى غياب حقوق مدنية تحدد المسؤوليات والواجبات، كذلك يؤدي التداخل بين السلطة والمصالح إلى انتشار الألغام في تلك المساحة، وتكون النتيجة تعطل ظاهرة النقد في مطاردة أوجه القصور في التنمية وغيرها.
حرية الصحافة ظاهرة صحية لا يمكن أن تصل إلى صفة الكمال، لكن يجب العمل تدريجياً على توسيع دائرتها إلى أقصى حدود ممكنة، وقد يكون ذلك بتفعيل قوانين واضحة للنشر، تحدد بلا لبس حدود حرية النشر والتعبير، ثم إخضاعها لمحاكم متخصصة، وبالتالي تخفيض حدة القلق عند مسؤول التحرير، والتقليل من اجتهاداته التي تحكمها الظنون في أغلب الأحيان، وعدم تحميله أو الكاتب إسقاطات القراءات الخاطئة للرأي، وبالمناسبة لاتوجد قراءة موحدة لأي نص، ويمكن التشكيك في معاني أي نص، وإن كان مضمونه المديح والإطراء.
الجديد في أمر حرية الصحافة خروج وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبح قراؤها يتفوقون على قراء الصحف والمقالات الصحفية، والسبب تمتعها بقانون تقني مفتوح، ويسمح بالكتابة بحرية وبدون رقيب، ومهما إزدادت وسائل الرقابة على الكتابة في الإنترنت، ستخلق التقنية وسائل جديدة تخرج من خلالها الآراء المتمردة على ما تم التعارف عليه في تابوت الممنوع في عالم النشر، وقد وضع تطور وسائل النشر الاجتماعي في الإنترنت الصحافة في موقع متدن في مقاييس حرية الصحافة، وقد ظهر ذلك على أرقام التوزيع، وأصبحت جودة المقال الصحفي أو غيره، تقاس بأرقام إعادة نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي.
في نهاية الأمر لابد من دخول فصل جديد في عالم حرية الصحافة، بوابته إصدار قوانين مفصلة في الممنوع والمسموح، تحدد بضوح تام الخطوط الحمراء في النشر، وقبل ذلك أن تدرك المكونات والفئات المتعدده في المجتمع أن حرية الصحافة لا يمكن أن تنهض في مجتمع تحكمه الأفكار المغلفة، وتحركه ثقافة التحريض والإسقاطات والقراءات الخاطئة، وأن حرية الصحافة لا تعني أيضاً مهاجمة الثوابت أوالإخلال بالوحدة الوطنية، ولكن تعني على وجه التحديد القدرة على التعبير بمسؤولية وبدون خوف، والله المستعان.