د. حسن بن فهد الهويمل
المواطن السعودي المستهدفُ بزخات الأوامر الملكية، وبالمبادرات العملية: محلية كانت، أو خارجية، من حقه أن يتأمل، وأن يستقرئ المعطيات.
ومن حقه أن يبوح بما يساوره من تساؤل مشروع. وواجب المسؤول أن يُلقي السمع، وهو شهيد، ليرد الصوت بأحسن منه، مادامت الثقة متبادلة، وحسن النوايا قائمة، والكل في سفينة تمخر عباب البحر الهائج، المائج.
وحين يُصِيخ المسؤول للبوح، فإن عليه أن يضع له كل الأهمية. ذلك أن الأمر لا يمس الثقة المتبادلة، ولا الولاء المطلق، ولا المحبة الصادقة.
وحين يكون مابين المواطن، والمسؤول عامراً بالود، والصفاء، والثقة، يصبح التناجي مجانفاً للأثم، والعدوان. والخيرية لمن يقول حُسْناً، ولمن يَسْمَعُ ويستجيب.
والقول الصادق المتبادل بين كل الأطراف، يجلو خبث التزلف، وينقي أجواء الأداء من لوثة الافتراء، ويمهد الطريق لمسير القافلة.
وولي الأمر حين يُقرُّ أمراً، يود من الشارع العام أن يكون نَبْضُهُ داعماً، ونَقْده صائباً. فهو لايريد إلا الإصلاح ما استطاع، ومن ثم لابد من إمساك الرداء من أطرافه للنهوض بالمسؤولية، فاليد الوحدة لا تصفق كما يقول المثل العامي.
وبلادنا بما حباها الله من أمن، ورخاء، واستقرار، وتلاحم بين الأمة، والقيادة، تقوم على مثمنات: حسية، ومعنوية، لا تتوفر لغيرها. وتتسم بخصوصيات، لا تتأتى لمن سواها. والكل مسؤول عن حماية المكتسبات: التالد منها والطريف.
هذا الأمن، وذلك الاستقرار، وتلك العلاقات الطيبة مع دول العالم، لم تكن وليدة الصدفة. إنها ناتج سياسة حكيمة، وتصرف سليم، وأداء حميد.
والخطأ الفادح أن تؤتى المثمنات من الثنيات التي تقف عليها النخب، وبخاصة حملة الفكر الذين يستطيعون التصدي للأفكار الضالة، والنوايا السيئة، سواء كانوا على سِدَةِ المسؤولية، أو خارجها.
إن الفرح وحده بالمستجد، لا يغني من الحق شيئاً. وواجبنا ترجمة المشاعر قولاً، وعملاً، لتكون رِدْءاً، وعضداً لهذا الفيض من الأوامر.
قد يفاجأ المواطن بما لا يخطر له على بال. وثقته، وصفاء حبه، يُهيِّئانه نفسياً للقبول، والرضا. غير أن الخطورة تكمن في إبداء المشاعر، ثم التولي ساعة الجد.
ولهذا فإن واجبنا لا يقف عند المباركة، والاحتفاء، والتفاؤل. بل لابد من فعل نترجم به مشاعرنا على أرض الواقع.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يضع الأمور كلها بيد واحدة، ولم يأذن للعامة
بالقعود، وترقب ما يأتي، إذ لا مجال لسياسة:- {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
لقد أطلقها مدوية عبر الأجيال:- [كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته] وعند التفصيل، وضرب الأمثال قال:- [والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها]. والمواطن الحق من تتساوى عنده الحقوق، والواجبات. بحيث لا يكون لجوجاً وراء حقوقه، متقاعساً في أداء واجباته.
إذاً الأمة حين تتلقى المستجدات - أوامرا كانت، أو أفعالاً- بالقبول الحسن، وتشيع تفاؤلها، وتبارك خطوات القائد، وتكبر عزماته، فإن واجبها لا يقف عند هذا الحد. بل لابد من ترجمة الأقوال الإيجابية إلى أفعال إيجابية، تُمكِّن المواطن من الاستثمار السليم، والمشاطرة الحسنة.
والمسؤول الذي حُمّل المسؤولية في أي قطاع، واختير ليكون جزءاً من الدولة، أو من الحكومة، وهو يتلقى هذا الترحيب، يجب عليه مراقبة الله فيما استؤمن عليه، فإن أخطأته عين الرقيب، فإن عين الله لن تخطئه.
إن المسؤولية - تشريعية كانت، أو تنفيذية، أو قضائية، أو اعلامية - أمانة، وطوق من لهب، وضعه ولي الأمر في رقبة المُكَلَّف. والله سائله عما يفعل.
[والذكر للإنسان عمر ثاني]. فكم من مسؤول بارح مسؤوليته، وفي سجل سمعته ما يود لو أن بينه وبين مافيه أمداً بعيداً.
والتاريخ الحاضر بكل وعيه، ودقة حسابه، يُحَذِّركم نفسه. فضلا عن تحذير الله الأهم:- {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}.
المُشَرَّفون، والمكلفون بالأوآمر الملكية، طَرَقَ ولي الأمر أبوابهم في حين لا يعرفهم أحد. وسيبرحون مواقعهم عاجلاً، أو آجلاً، في حين لا يجهلهم أحد. فلتكن المعرفة حميدة، والخاتمة سديدة.
وما أسعد المسؤول، حين يترجل عن صهوة جواد المسؤولية، وكلمات الثناء والدعاء تحيط به كالهالة.
وما أتعَسَه حين يُدَعُّ من على ظهر جواد المسؤولية دَعَّا. وكلمات التذمر، والذم تُطَوِّقه كالغلالة السوداء. وحين يأوي إلى بيته، ثم لا يجد إلا خيبة الأمل.
إن ترجمة الأوامر تتمثل في تلقي المسؤولية من المكلَّف بالصدق، والإخلاص، والنزاهة، والتفاني في أداء ما يرضي الله، ويبرئ الذمة، ويحفظ الكرامة، ويعطى المواطن حقه المشروع. وهذا بعض ما أقسم عليه المُعيَّن أمام ولي الأمر. {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
والمسؤول العاقل من لايغتر ببريق المسؤولية، ولا بِسراب الوجاهة. والمواطن العاقل من لايبخل بالمساندة، والمساعدة، وتمكين المسؤول من ممارسة مهماته في أجواء ملائمة.
لقد أصبحت المسؤولية مكشوفة، والأداء في العراء، وكل حركة، أو كلمة ترصد بالصوت، والصورة. وحين يكون المسؤول تحت المجهر، فإنها لاتنفعه كلمات المجاملة، ولا محاولات التستر، وكم من مسؤول أطاحت به لقطة خاطفة.
والمسؤول إما أن يكون في مستوى مسؤوليته، وهذا مايوده ولي الأمر، ويتطلع إليه المواطن. وإما أن يكون دون ذلك، وحينئذ فلا مناص من أن يلوذ المُقَصِّر بالفرار، وينجو بجلده. على حد:- [انج سعد، فقد هلك سعيد].
لا نريد أن نحتفي اليوم بالمسؤول، وفي الغد نشمت به. نريد مسؤولاً نتلقاه بالثقة، وحسن الظن، ونودعه بالثناء، والذكر الحسن. وهذا مانتوقعه، ونؤمله. لأننا نثق بالاختيار، ونُحسِن الظن بالمُختار.
فليتنبه من شرفهم ولي الأمر بثقته، وليحسبوا لما بعد فرحة التعيين حسابها.
إن ساعة التعيين كساعة الولادة محفوفة بالشهوات، وساعة الإعفاء كساعة الموت محفوفة بالمكاره. والعقلاء من لا تُلهيهم ساعة الفرح عن ساعة الترح.
هذا [الكرسي الدوار] علاه من ظن أنه خالد فوقه. والمسؤول اليوم يمتطيه، وهو لا يدري متى، ولا كيف تكون صيغة المبارحة.
إنه مفارق طال الزمن، أو قصر، فليحرص على أن تكون ساعة المبارحة سعيدة، كساعة الامتطاء. وليس ذلك على الهمم القوية، والعزمات الكريمة بعزيز.
لا يظن المسؤول أن بناء السمعة الحسنة من المستحيلات.
إنها فعل، قد يكون أقلَّ كلفة، وجهداً من العمل السيئ.
وعلى المسؤول ألا يبني جاهه، ولا ثراءه على حساب الآخرين، بل عليه أن يتوسل براحة المواطن، وإسعاده، وأن يعتمد على جهده، وتفانيه، وحسن أدائه.
إن مضامير اللزز واسعة، وممهدة، وتدفق الثروات يغري المخلصين بمزيد من العطاء، وعلى المسؤولين أن يسابقوا الزمن، وأن يستغلوا الفرص، وأن يجنحوا إلى العمل الميداني، وأن ينزلوا إلى الشارع، فهو المرآة التي تصدقهم القول.
وليحذروا معوقات [الروتين]، ومركزية الأداء، وعفن [البيروقراطية]. والادعاءات العريضة.
وعليهم أن يلقوا السمع خارج أبهة المكاتب، وأن يرموا نظراتهم خارج أضواء السلطة. فلغط الشارع المُسْتَخَفِّ به، هو وحده الذي يكتب تاريخ المسؤول.
ونحن من قبل، ومن بعد دولة عُرِفَتْ بالحلم، والأناة، وبعد النظر، وطول النفس، والتريث عند اتخاذ القرارات المصيرية. ومن ثم لا يُقْرَعُ لها بالشنان، ولاتُستدرج بالهدير الفارغ، ولا تتأثر بالصهيل الزائف.
وعلى المسؤول ألا يضطر ولي الأمر بتتابع الأوامر: المُعيِّنة، والمُعفيَة، فقراراتنا لاترى النور حتى تنضج على نار هادئة، بحيث تتسم بالتجويد، والإحكام، والإحتياط. تلك هي سمتنا التي يغبطنا عليها الأصدقاء، ويحسدنا عليها الأعداء.
بكل ماسبق، وبكل مايختلج في النفوس نستطيع أن نترجم تلك الأوامر الملكية، التي قُصِد منها صالح الأمة، واستقرارها، وسعادتها.
ولما تزل الأمة ترقب المزيد من المبادرات السديدة، والقرارات الرشيدة. فنحن في عهد مفتوح على كل الاحتمالات السعيدة.