عبدالعزيز السماري
قبل عدة أيام، وفي عقر ديار الديموقراطية انتشر متطرفون مسلمون في يوم الانتخابات البريطانية، يوزعون منشورات يحمل بعضها شعار «داعش»، ويدعون المسلمين إلى عدم المشاركة، لأن الانتخاب «كفر يضاهي عبادة الأصنام»، وما فعلوه أشبه بتحريم بيع الماء في حارة السقايين.
المدهش أنهم بدعوتهم تلك لم يطرحوا في منشوراتهم البديل الذي يؤمنون به، وهو القتال وسفك الدماء وقطع الرؤوس حتى تقوم دولة الخلافة على الطريقة الداعشية، بينما لم يدركوا أن الغرب تجاوز استخدام وسائل العنف داخلياً للتغيير منذ حوالي قرن من الزمان، واستبدلها بآليات متطورة في عالم السياسة والإدارة، لذلك كان المنتج الديموقراطي بمثابة الآلة التي تم تطويرها لتنظيم التوازن السياسي في البلاد.
لا زال بعض الإسلاميين يعتقد أن هناك فئة دينية أحق بخلافة الأرض من غيرها، وأنهم أقرب إلى الله عز وجل من جميع البشر، وأنهم مأمورون بالقتال وسفك الدماء حتى يتحقق النصر لهم على الكفرة والملاحدة وأهل البدع، مما يعني أن الدماء ستظل تسيل في الشوارع كلما حان وقت التغيير، والتغيير سنة كونية، وتأتي خلال فترات متفاوتة من الزمن، قد تطول، وقد تقصر، ولهذا أعاد الغرب للديموقراطية دورها الإداري، لتنظيم مراحل التغيير، بينما لا زال بعض المسلمين يعتقدون أن بريق السيوف ولهيب التفجيرات خير من صناديق الاقتراع عندما تقترب ساعة الصفر.
الموقف التفكيري للديموقراطية معاصر، وقال به بعض علماء الدين خلال العقدين الماضيين، بل أن بعض الأحياء منهم لا زال يخرج في القنوات المرئية ويردد المقولة الداعشية، أن « الديمقراطية نظام أرضي، يعني حكم الشعب للشعب، وهو بذلك مخالف للإسلام، فالحكم لله العلي الكبير، وأن النظم الديمقراطية أحد صور الشرك الحديثة، في الطاعة، والانقياد، أو في التشريع، حيث تُلغى سيادة الخالق سبحانه وتعالى، وحقه في التشريع المطلق، وتجعلها من حقوق المخلوقين «.
مقولة إن الحكم لله تعود إلى الخوارج، عن بُسر بن سعيد عن عُبيد الله بن أبي رافع أن الحرورية هاجت وهو مع عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقالوا: «لا حُكم إلا لله « فقال: عليّ: (كلمة حق أريد بها باطل )، وتستخدمها الحركات المتطرفة لتبرير القتل وسفك الدماء من أجل الوصول إلى كراسي الحكم.
خير رد على هذه المقولات خطبة أبي بكر الصديق بعد اختياره لولاية الأمر، حين قال « «أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة «، فالإنسان مكلف بإدارة الأرض، وقد يحسن فيها أو يسيئ، وللمؤمنين حق التقويم، وهذا يخالف تماما ما تبشر به حالياً الجماعات الدينية المتطرفة من شعارات ليس لها علاقة بالدين كما طبقه المؤمنون الأوائل.
كان للشيخ الجليل محمد بن عثيمين رحمه الله رأي متنور عن الانتخابات، وعندما سُئل عنها، أجاب: «أنه يرى أن الانتخابات واجبة، ويجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير، مَنْ يحل محلهم؟ سيحل محلهم أهل الشر، أو الناس السلبيون الذين ما عندهم خير ولا شر، أتباع كل ناعق، فلابد أن نختار من نراه صالحاً «، وهو بذلك يدعو للمشاركة فيها من أجل اختيار الأفضل.
في جانب آخر قبلت بعض الجماعات الإسلامية بالديموقراطية وشاركت فيها، لكن الخلاف لازال واسعاً حول حدود الحريات والوطنية والدستور والقانون، وأين تقع على وجه التحديد حدود الشريعة الإسلامية، وعن الموقف من التطرف الديني، وربما كان ذلك أحد أهم أسباب الحروب الأهلية الحالية في بعض الدول، بينما لم تعاني دول مثل تركيا أو ماليزيا كثيراً في قبول المبادئ الديموقراطية، ثم الوصول إلى صيغة تُحترم من خلالها الحريات وحقوق الأقليات، وبالتالي الحد من التدخل في حياة الناس وعقولهم.
خلاصة الموضوع أن الديموقراطية ضرورة تحتاجها بعض المجتمعات للوصول إلى صيغة متحضرة لحل الصراع فيها من خلال صناديق الاقتراع، ثم احترام نتائجها، لكنها أى الديموقراطية لا تنجح عادة في المجتمعات التي لم تصل بعد إلى مرحلة النضج الحضاري، ولا تزال نسبة غير قليلة من أفرادها تعتقد أن العنف وسفك الدماء وقطع الرؤوس واجب ديني، وأن صناديق الاقتراع أصنام يجب تحطيمها!