د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن قلت أن هناك رجالات دولة مقتدرين جمعوا بين الدبلوماسية وفن الكتابة والتنظير، ومنهم من جمع بين الدبلوماسية والملكة الشعرية.. ودائما ما أستحضر لطلبتي في الجامعة القوة الكتابية لهنري كيسنجر وما خلفه ويخلفه..
وفي وطننا العربي نجد علماء أجلاء جمعوا بين المسار الدبلوماسي الطويل والتأليف والكتابة المعتمدة، بل وكتبوا أيضا عن الدبلوماسية في العشرات من المجلدات كالمرحوم عبدالهادي التازي الذي خصصنا له منذ أسابيع مقالة متفردة في صحيفة الجزيرة الغراء.. وسيرته الفكرية والدبلوماسية والثقافية غنية عن التعريف، تشهد له تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة والنادرة التي ألفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لعالم يعشق الكتابة بالحركة الدائبة، لتكون في جملتها سفراً كبيراً ستقرأ فيه أجيال دروسا من الجهد والبذل العلميين، حيث خلف أكثر من خمسين مؤلفا بعضها في العشرات من الأجزاء.
ومن الدبلوماسيين العرب من جمعوا بين الممارسة الدبلوماسية والموسوعة المعرفية والثقافية والتاريخية وبين الممارسة الدبلوماسية والأستاذية والملكة الشعرية...وهذا ما يمكن أن نستحضره في دبلوماسيين من المملكة العربية السعودية ومنهم السفير الدكتور محمد بن عبدالرحمن البشر الذي كان سفيرا لمدة عشر سنوات في المملكة المغربية قبل أن يعين سفيرا في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكل من يتعرف على السفير الدكتور محمد بن عبدالرحمن البشر يكتشف مزاجه الخاص وخفة دمه ومرحه والكلمات المعسولة التي يجد لها دائما مكانا في محاورته للآخرين وامتلاكه لأسلوب فن البلاغة قَلَّ نظيره حيث يمزج الجد بالهزل مما يثير إعجاب الحضور وسامعيه من مختلف الأعمار والجنسيات، وكم من مرة نكون بجانبه ونتمنى أن يطول الحوار، فهو دائما صاحب مشروع كلام أو كتابة من النوع الدسم والقائم على البحث المعمق والتوليد المعرفي المدجج بالجد والهزل، وهما عنده توأمان، وكلا الأمرين مع عطائه العلمي تصب في مجرى واحد، هو إظهار مدى قدرة نهر الثقافة السعودية والعربية على التدفق والدوام.
ومن يلتقي بهذا الدبلوماسي الشاعر يلتمس فيه عمق التجربة وأصالة الثقافة السعودية والخليجية والعربية والعالمية وقيمة أبحاثه وأشعاره وذوقه النفيس.. وبتجربته الدبلوماسية والثقافية اختمرت شخصيته، وبرزت كنموذج لإنسان سعودي عربي متألق في تكوينه، ملحاح في أبحاثه، شغوف بتاريخ بلاده، رسول لقيم وطنه وأمته، ومن يجالسه يجده مفكرا بارعا ومحاورا نزيها، لطيفا ومتفتحا، مستعدا للأخذ والعطاء، يحسن الاستماع في تواضع يساهم في الرفع من مستوى النقاش إلى أعلى مراتب عطاء الفكر الإنساني.. فقضى السفير البشر حياته ومازال يقضيها ناسكا في محراب الدبلوماسية والشعر والعلم المقدس وهو ما يفسر علاقته بالكتاب، وهي علاقة الروح بالجسد، ودائما ما تجد الكتاب عنده في كل مكان، وهذا ما يفسر طبعا أنه يعمل بانتظام واستمرار، كانت نتيجته تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة والنادرة التي خلفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لرجل يعشق الكتابة بالحركة الدائبة، لتكوّنَ في جملتها سفرا كبيرا ستقرأ فيه أجيال قادمة دروسا من الجهد والبذل العلميين تشهد للمدرسة السعودية التي تخرج منها والتي تربى في أحضانها وللعربي بقدرته على ولوج الكونية المعرفية من أوسع أبوابها وعلى الإقدام على المنافسة الأكاديمية في معترك العلم والمعرفة.
وأعظم كتاب يعجبني من تآليفه هو مآسي الأندلس الذي يغطي بأسلوب علمي رصين وتمكن أدبي وعلمي لا يعلى عليهما، مرحلة طويلة من الزمن، حوالي ثمانية قرون، في أقل من 300 صفحة، وذلك ليس بالأمر الهين، لأن الصعوبة التي تواجه المؤرخ في مثل هذه الحالات هي كيف يمكن الاختزال، على اعتبار أنه يجد نفسه أمام زخم من الأحداث، ومادة مصدرية كثيرة جداً، جل المصادر المعتمدة وهي من عيون تاريخ الأندلس، وكلها تقدم معلومات قيمة جداً، وبالتالي كيف نتمكن من الاستغناء عن بعض ما تقدمه من معلومات، ونترك البعض الآخر، وهذا لا يتسنى إلا للباحث المتمرس.
وقد تمكن السفير البشر من تجاوز هذا المشكل بذكاء كبير، عندما طرح إشكالية، هي جوهر الكتاب، بقي وفياً لها في كل فصول الدراسة، هي مآسي الأندلس. فحاول البحث في هذه المآسي، ليس فقط بحث الدارس المشخص كما يكتب الأستاذ عبدالواحد أكمير، وإنما الدارس الذي يحاول أن يقدم من خلالها العبرة، وهذا ما يعبر عنه بما يلي: « ضاعت الأندلس بعد أن كانت محطة عبور العلوم إلى أوروبا مدة غير يسيرة من الزمن، وكان ضياعها بأيدي أبنائها في الغالب، فما عسانا نقول، وهل لنا أن نعتبر»؟ فتغطية ثمانية قرون من الزمن تجعلنا أمام كتاب معجمي. فالمؤرخ المهتم بدراسة ظاهرة معينة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، في مرحلة محدودة من الزمن، في حاجة إلى فهم الأوضاع السياسية لتلك المرحلة، وهنا هذا النوع من الكتابة التاريخية يساعده على ذلك، والرسام الذي يريد رسم لوحة عن معلمة أثرية أو معركة أو ظاهرة معينة عرفتها الأندلس كذلك، ونفس الشيء بالنسبة للأديب الذي يريد كتابة رواية، أو الشاعر الذي يريد نظم قصيدة، فهو في حاجة إلى السياق التاريخي الذي يجعله في متناولنا هذا النوع من الكتابة التاريخية.
والكتاب كما يكتب الأستاذ عبدالواحد أكمي، هو موجه كذلك للجمهور العام، وهنا راعى المؤلف هذه القضية بذكاء، فهو لم يكثر من هوامش أسفل الصفحة والاحالات، لأن ذلك يرهق القارئ غير المتخصص، ويجعله أحياناً يحس بالملل، لذا فهو ورغم عودته إلى أمهات المصادر الأندلسية، والاقتباس منها، حيث نادم كتب التاريخ كما جاء في المقدمة، فقد جعل ذلك بطريقة مشوقة، وكان يستعين أحياناً بالقصائد الشعرية، وكما نعرف فالشعر ديوان العرب. والكتاب هو رصد للتاريخ السياسي الأندلسي، لكن في الوقت ذاته، هو رصد لطبيعة العلاقة التي كانت للأندلس مع محيطها، ومع جيرانها، سواءً في الشمال، مع الممالك النصرانية، أو في الجنوب مع المغرب. وبالتالي من يقرأ ما بين السطور، يمكن أن يخرج بخلاصة لطبيعة هذه العلاقة، في مختلف المراحل.
والكتاب وبوفائه للمنهجية التي سطرها في البداية، وهي البحث في مآسي الأندلس، يمكننا من الاطلاع على مظاهر ثقافية واجتماعية مختلفة، كانت لها علاقة بطريقة أو بأخرى بمآسي الأندلس، فمن الناحية الثقافية يقدم نماذج معبرة من عهد الأمير هشام بن عبدالرحمن ودخول المذهب المالكي إلى الأندلس، وكيف تكونت بذلك الوحدة المذهبية، ويصف المؤلف هذا الأمير بأنه كان :»ورعاً، محباً للخير جم التواضع». كما يقدم نماذج من عهد يعقوب المنصور الموحدي، وموقفه من الطلبة ومن الفلاسفة وانعكاسات ذلك على الحركة الفكرية في المغرب والأندلس، وهو لا يتردد في تحليل بعض الأقوال المأثورة لهذا الخليفة، مثل رأيه وهو على فراش الموت في تأسيس مدينة الرباط، أو في نقل العرب من إفريقية إلى المغرب، أو في إطلاق اسارى معركة الأرك، وبطبيعة الحال أخطأ هذا الخليفة كجميع البشر في تقييمه لبعض الأمور واصاب في أخرى. ورغم أن يعقوب المنصور حكم أكبر إمبراطورية في تاريخ الغرب الإسلامي على الإطلاق، تمتد من الأندلس شمالاً إلى الحدود المصرية الليبية شرقاً، فقد كان أكثر ما يشغله هو مستقبل الأندلس، والواقع أنه تنبأ بمآسيها، حيث قال وهو على فراش الموت: «أوصيكم بتقوى الله، وبالأيتام واليتيمة»، فسألوه: «ومن الأيتام واليتيمة»، فرد: «اليتيمة جزيرة الأندلس والأيتام سكانها المسلمون، واياكم والغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها، وتربة أجنادها، وتوفير رعيتها»..
والكتاب يسمح لنا بأخذ فكرة عن دور المرأة في الأندلس، إيجاباً وسلباً، كما هو الحال مع الرجل. وهكذا يتوقف عند الدور الذي لعبته في الحياة السياسية، بحيث إن فتح الأندلس، ساهمت فيه بشكل مباشر امرأة هي فلوريندا ابنة يوليان، وسقوط الأندلس ساهمت فيه كذلك النساء، والمؤلف يتوقف عند الدور الكبير الذي اطلعت به بعض نساء الأندلس مثل صبح، زوجة الحكم وأم الخليفة هشام، والأسباب التي جعلت المنصور بن أبي عامر يتحول إلى سيد قرطبة بفضل حمايتها له، كما يتوقف عند الدور البطولي لعائشة السيدة الحرة أم آخر ملوك بني الأحمر. ومع أهمية دور المرأة فهي لم تحظ حسب المؤلف، وهذا صحيح، بالاهتمام من طرف الباحثين، ليس لدورها السياسي فقط وإنما الثقافي أيضاً، كعالمة ومعلمة، وهذا ما يشهد به ابن حزم نفسه الذي كتب في طوق الحمامة: «ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني تربيت في حجورهن، ونشأت في ايديهن، ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وانا في حد الشباب وحين تبقل وجهي، وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الاشعار ودربنني على الخط»..
لقد أحببنا السفير البشر وأحبنا، وأريد أن أشرك القارئ هنا أبيات جادت بها قريحته وهو يغادر مهامه في المغرب، ولكن اسمه ظل راسخا في وجداننا، فصورته واسمه في قلوبنا، فكيف يغيب:
جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى
فرِّحاً فوقَ سماءِ المغربِ
وإذا الطورُ تجلى لابساً
حُلةٌ من لؤلؤٍ لم يثقب
رقص النرجس شوقاً وبكى
مجريا نهراً بدمع عذبِ
فترى الروض يناغى بعضه
منحنٍ شكراً لمجلي الكُرب
* * *
قد مضى عقد وما كنت أرى
غير إحسان وصدْر رحب
قد مضى عقد كحلمٍ في الكرى
أو كبرقٍ لاح بين السُّحُب
قد مضى عقد وحسبي وكفى
ضيَّعَ العُمرَ مُشيمُ الخلّب
وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى
أنه مرّ كومض الشُّهُب
وطرٌ ما فيه سرٌّ قد خفى
لامع مثل بريق الذهب
* * *
طاب عيشي بين أطياف المنى
وإلتذاذي من رحيق الكتب
اشتكت أندلس تفريطنا
وروت آثار مجد العرب
وعلت صيحاتها من مكثها
في حياض الشانئ المغتصب
ساءلتني كيف بعدي
حالكم قُوَّم أم نوَّم في الترب
لم أجبها، وأنا الأدرى بها
لاذ بالصمت جليل الأرب
* * *
أيها المغرب إهنأ، حامداً
ملك الجود نقي المأرب
رامَ خيراً فأنبرى الخير له
فالنوايا كالمطايا النُّجب
تهتدي إن سستها في حكمة
وجموح إن تقد في شغب
* * *
يا يمامُ نقري أو صفري قد
صفا الجو فبيضي وأطربي
واتركي ما قد مضى فيما مضى
واعتلي الأرزَ وعِلِّي واشربي
وارقدي في مأمن من جائر قد
حمى الطير شريف النسب
* * *
حان ترحالي بخير مفعم
طابَ مَنْ حلَّ جوار الطيِّب
قد دعا الداعي هزبر للوغى في
الدُّجى يسطع ضوء الكوكب
قد برت جسمي تباريح الهوى
تلك حال الصابر المحتسب
* * *
ربِّ سترا ثم لطفا عدَّ ما
جلل العفو ذنوب المذنب
وسلام من محب صادق
مثل غيثٍ واكف كالصيبِ
لك يا شعب عزيزٌ، مكرمٍ
كل من زار ديار المغرب