د.عبد الرحمن الحبيب
قبل تدخُّل أمريكا في أفغانستان ثم غزوها للعراق عام 2003م كانت إيران محاصرة شرقاً وغرباً بنظامين يُصنفان كخارجين على النظام الدولي مثلها ومتهورين أكثر منها، وكانا يشكلان ضغطاً عليها وتقييداً لتصدير ثورتها، فانحصر نشاطها الفعلي مع حزب الله وسوريا، بينما بقية
النشاط كان دعائياً. بعد سقوط نظامي كابل وبغداد تفكك أكبر قيد على طهران لممارسة تدخلها في الدول العربية.
وبعد دخول المنطقة العربية في حالة مضطربة نتيجة تداعيات «الربيع العربي»، زادت فرص التدخل الإيرانية.
التوسع الإيراني قابله تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة وضعف قيادتها للتحالف الدولي ضد الإرهاب أو عدم جديتها.
أمام ذلك بدأت السعودية تقود تحالفاً عسكرياً لمواجهة الإرهاب على حدودها الجنوبية.. وتدير تفاهماً دولياً على مستوى المنطقة ككل، وأخذت زمام المبادرة عربياً لتغطية الفراغ الذي شكله تراجع الدور العربي لبعض دوله.
هل نحن مقبلون على تغير في النظام العربي إقليمياً وتشكل نظام عربي جديد كما يتوقع المفاوض الأمريكي جورج ميتشيل في كتابه الجديد «المفاوض»؟ السؤال واسع ومفتوح للاحتمالات كافة، فلنطرح سؤالاً أدق يمكن مسك خيوطه: في هذه الحالة المضطربة أيهما أشد خطراً السلاح النووي الإيراني المحتمل مستقبلاً أم التوسع الإيراني الراهن؟ مصدر الانزعاج الأول لدى الغرب من إيران هو برنامجها النووي، غاضاً الطرف عما كان -ولا يزال- يقوله إن إيران تدعم الإرهاب، ومتناسياً التوسع الإيراني حتى عندما يفتخر بعض القادة الإيرانيين بأن بغداد هي عاصمة إمبراطوريتهم.
لذا وصلت مفاوضات القوى العالمية مع إيران إلى الاقتراب من توقيع اتفاق شامل.
أمريكا شعرت أن دول الخليج العربية منزعجة من هذا الاتفاق وسعت لطمأنتها، لكن من ماذا؟ من أن إيران ستلتزم بالاتفاق ولن تمتلك سلاحاً نووياً؟ أم من أن أمريكا لن تسمح لإيران بالاعتداء على دول الخليج؟ أم من أن الاتفاق مع إيران لن يمس مصالح دول الخليج العربية ولا متانة علاقاتها الوثيقة مع أمريكا؟ هذه التطمينات - إن صحت - مهمة لكنها ليست الأهم في أزمة علاقة دول الخليج مع إيران.
المشكلة الأساسية الراهنة هي سياسة التدخل الإيرانية وإثارة الاضطرابات في الدول العربية عبر جماعات خارجة على قانون دولها.
بعض قادة إيران لم يدخروا وسعاً في إيضاح ذلك رسمياً حتى أن نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، صرح أن أمن اليمن من أمن إيران، ناسفاً الجغرافيا السياسية بإيديولوجيا طائفية.
إذا كانت إيران الآن تمارس سياسة التدخل رغم أنها أمام اتفاق يرفع العقوبات الاقتصادية في غضون أسابيع، فكيف سيكون الوضع إذا رفعت عنها العقوبات؟ فإذا كان الاتفاق الشامل مع إيران لن يتناول هذه النشاطات فربما يشجعها على ممارسة المزيد من التدخل.
ورغم أن تفاصيل الاتفاق النووي النهائي لم تظهر بعد، لكن من الواضح مما أعلن رسمياً حتى الآن أنها منحصرة في منع إيران من إنتاج سلاح نووي مقابل رفع العقوبات عنها.
هذا يعني أن الاتفاق لا علاقة له بنشاطات إيران التوسعية في المنطقة العربية.
ليست الأولوية القصوى لدول الخليج مع إيران هي سلاحها النووي، صحيح أن إيران لو امتلكت هذا السلاح فثمة خشية من استخدامه طالما أن إيران متمردة على المجتمع الدولي بما يشبه كوريا الشمالية.
لكن الجميع يعلم أنه حتى مع جنون النظام الكوري الشمالي لم يجرؤ على استخدامه رغم تهديده بذلك، فالنظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا يسمح باستخدام هذا السلاح، ثم بعد التزايد التدريجي لعدد الدول التي تمتلك أسلحة نووية تطورت المعاهدات الدولية وأصبح من شبه المستحيل استخدامه، وصارت أهمية امتلاكه هي لتوازن الرعب كقوة رادعة.
وسبق أن صرحت هيلاري كلينتون (عندما كانت وزيرة خارجية)، بأن إقدام إيران على استخدام السلاح النووي، إذا ما حصلت عليه، سينتج عنه رد عنيف يمسح إيران.
ويرى المحلل السياسي فرانك بروسيدا فى الفورين بوليسى أنه في حالة نشوب الحرب بين أمريكا وحلفائها ضد إيران، واستخدام الأخيرة السلاح النووي انتقاماً من إسرائيل، فإن الأخيرة تمتلك قوة نووية إذا استخدمتها ضد إيران فستسحق الوجود الإيراني من على وجه الأرض، وهو ما يحدث الدمار الشامل لمنطقة الشرق الأوسط.
إذا كانت التطمينات الأمريكية هي «كلام» عن ضمان أمن الخليج فهي تحصيل حاصل، وفق مبدأ إيزنهاور حول الوضع في الشرق الأوسط كما شهدنا تطبيقه أثناء غزو صدام للكويت.
أما تسهيل أمريكا لبيع الأسلحة المتقدمة لدول الخليج فهو عمل تجاري، ومثل سابقه تحصيل حاصل.
كل تلك التطمينات ليست رادعة لإيران من التدخل وإثارة الاضطرابات عبر وكلائها، فمن المنطقي إدارج المطالبة بوقف إيران لتدخلاتها في الاتفاق النووي، كما ذكر جيسي فيريس في نيويورك تايمز: «خط أحمر أميركي في اليمن، مدعوماً بالقوة الجوية السعودية والمصرية، سيعطي إشارة للإيرانيين بأن التخفيف من العقوبات يتوقف على إنهاء دعمهم لوكلائهم العنيفين من اليمن إلى العراق وما وراء ذلك».
حسناً، لا يبدو أن أمريكا تضع هذا الخط الأحمر، ويبدو أن نظام الملالي مضطر إيديولوجياً لتصدير ثورته، أو بعبارة أخرى تصدير أزمة النظام الإيراني كي يخفف العبء على أوضاعه الداخلية عبر فتح جبهات خارجية تبرر إسكات الأصوات الداخلية وقمعها بحجة الخطر الخارجي من جهة وتثبيت شرعية ولاية الفقيه من جهة أخرى.
فإذا استمرت إيران في تدخلاتها فماذا تفعل دول الخليج؟ قال دبلوماسي عربي حسب سي إن إن: «إن هناك تصميماً من قبلنا الآن بأنه إذا كانت هناك قضايا أمنية، فإن علينا أن نواجهها بعمل.. لن نطلب الإذن من أمريكا»..
وأوضح بأن العمليات العسكرية التي شنتها السعودية ضد المليشيات الحوثية في اليمن، مع عدد من الدول الحليفة، والغارات المصرية في ليبيا، تعكس هذا التوجه، وعزم دول الخليج على حفظ الأمن في المنطقة، بغض النظر عن انخراط واشنطن، أو حتى موافقتها.
يبدو أن هذا التوجه هو الرادع المتبقي لدول الخليج العربي المسالمة والتي بدأت تُظهر مخالبها وقد تُظهر المزيد ما لم تنتصر العقلانية في إيران والتركيز على التنمية فيها والرغبة في سلام مع الجيران لصالح خير الجميع..