محمد بن عيسى الكنعان
يرى المفكر الشيعي العراقي أحمد الكاتب أن الشيعة عبر التاريخ مروا بمرحلتين من التشيع، هما: (التشيع السياسي)، المتمثل في الانتصار لولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، باعتباره أحق بالخلافة، والوقوف معه ضد خصومه خلال فترة خلافته الراشدة (35 - 40 هجرية)، وبين (التشيع الديني)،
الذي ظهر عقب استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان ذلك سبباً في قيام ثورات متنوعة، ومتعددة ضد الخلافة الأموية، وبالتالي صارت الإمامة (الخلافة) ركن من أركان الدين لدى الشيعة؛ بعد أن كانت قضية سياسية كما هو الحال بالنسبة لأهل السنة والجماعة.(1)
لهذا من يتتبع الانحرافات الممارسات السلبية الشيعية كالطعن بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وتكفير الصحابة الكرام رضي الله عنهم، يجد أن هذه الانحرافات لم تظهر إلا في القرن الثالث الهجري، وتحديداً بعد وفاة الإمام الحسن العسكري العام 260 هجرية، وهو الإمام الحادي عشر من أئمة آل البيت، ثم غيبة الإمام الثاني عشر (الأخير)، حيث استبد بالأمر الديني فقهاء شيعة متعصبون، جعلوا من الإمامة (الخلافة) أصل من أصول الدين، وحكموا على كل من أنكر إمامة أئمة آل البيت الـ(12)، بدايةً من علي بن أبي طالب ونهايةً بمحمد المهدي، بأنه (كافر)؛ لأن الإمامة من الإيمان. (2)
من هنا بدأ الفكر السياسي الشيعي يتشكل وفقاً لأحوال الأمة الإسلامية، وظروف دولة الخلافة المتأرجح بين القوة والضعف، وتأثيرات الدويلات التي عاصرتها، وكذلك طبيعة العلاقة بين فقهاء الشيعة ومؤسسة الحكم، سواءً في دار الخلافة، أو الوزارة، أو المؤسسات الدينية التابعة كالقضاء والإفتاء. خصوصاً في عهد الخلافة العباسية، حيث نجح الشيعة في الوصول إلى الحكم كما في الدولة العبيدية (الفاطمية)، أو دولة القرامطة، أو دولة الإمامة الزيدية باليمن، كما نجحوا في السيطرة على الوزارة العباسية، من خلال (بني بويه) الشيعة، وبالتالي التحكم بالخلافة العباسية كاملةً، حتى ظهرت طقوس دينية لدى الشيعة لم تكن معروفة لدى أسلافهم كعاشوراء والاحتفال بذكرى غدير خم، بدايةً من العام 334هـ حتى سقوط حكم بني بويه على يد السلاجقة السنة 447هـ.
هذه الظروف السياسية وغيرها فرضت على علماء وفقهاء الشيعة خلال التاريخ الإسلامي أن يصيغوا مواقف ونظريات سياسية تضبط وتحدد علاقة المسلم الشيعي مع نظام الدولة القائمة في عصره، سواءً كانت خلافة (مغتصبة)، أو حكم جبري، أو رئاسة ديمقراطية، مع مراعاة أن تلك النظريات رغم تباينها واختلافها إلا أنها مرتهنة لمحورية الفكرة السياسية الشيعية بأن الإمامة (الخلافة) لآل البيت حتى قيام الساعة، أصل من أصول الإسلام، وفق ثلاث ركائز أساسية هي: (النص الديني) القرآن الكريم أو السنة النبوية، الذي ينص على إمامة علي وامتدادها في عقبه، والثانية (عصمة الأئمة)، التي تعني أن أئمة آل البيت الـ(12) معصومين إلى قيام الساعة كعصمة الأنبياء والرسل، إلا أنهم ليسوا أنبياء ولا رسل لانقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الثالثة فهي (التعيين الإلهي للأئمة) بالاسم وأنها محصورة في نسل الحسين بن علي رضي الله عنهما (3). بينما نجد أن الخلافة (الإمامة) عند أهل السنة والجماعة من أمور الدنيا؛ لأنها تقع في باب السياسة، وبالتالي هي صورة من صور الحكم في الإسلام التي لا تتحقق إلا بثلاثة هي: (الشورى، والاختيار، والبيعة).
يمكن تحديد تلك المواقف والنظريات السياسية في الفكر الشيعي، من خلال ثلاث مراحل رئيسة فصلها الدكتور عبدالعزيز العماري في كتابه: (في الفكر السياسي العربي الإسلامي من الإمامة والخلافة إلى الدولة)، الصادر عن دار (جداول) للنشر والترجمة والتوزيع. أولى تلك المراحل تمثلت في سيادة توجه ديني شيعي يقوم على (القطيعة السياسية) مع مؤسسة الحكم، والامتناع عن إقامة الدولة الإسلامية، بحجة غيبة الإمام المنتظر الثاني عشر (محمد المهدي). ولكن بعد حكم البويهيين الشيعة، الذين سيطروا على الخلافة العباسية تحول هذا التوجه نوعاً ما إلى (المشاركة السياسية الجزئية)، التي تمثلت بتيارين دينيين، أحدهما يحصر هذه المشاركة في دور الفقيه بمسائل القضاء والإفتاء والحسبة، بينما يرى التيار الآخر مشروعية إقامة الدولة الإسلامية في غيبة الإمام المنتظر مع إعطاء الفقيه دور سياسي كبير في هذه الدولة.
هذا التيار أحدث النقلة النوعية في الفكر السياسي الشيعي، بتحوله إلى توجه ديني عريض؛ يعطي للفقيه ولاية على الدولة تمهيداً لظهور الإمام، وقد مرّ بمرحلتين، الأولى كانت على يد الإمام الشيعي النراقي، الذي ابتكر نظرية (ولاية الفقيه) المشهورة اليوم، إلا أنه جعلها ولاية محددة، بينما جاء الخميني وجعلها ولاية مطلقة على سلطات الدولة الثلاثة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وهذا هو الحاصل بالنسبة للنظام السياسي الإيراني القائم. يوازي هذا التوجه محاولات شيعية حديثة، ومعاصرة بلورت توجهاً أقرب إلى النظم الديمقراطية، حيث يؤكد على إقامة الدولة الإسلامية حتى ظهور الإمام آخر الزمان، لكنه يضع الولاية في يد الأمة، أو الشعب على مبدأ الشورى، من خلال دستور أو المشروطية حسب المصطلح الديني.
بعد هذا الاستعراض المقتضب للفكر الشيعي السياسي العام؛ يمكن تحديد الموقف الإيراني السياسي من فكرة الإمامة (الخلافة)، وعلاقة المؤسسة السياسية الحاكمة في إيران بهذه الفكرة، وارتباطها بنظرية (ولاية الفقيه)، ومدى تفعيلها على أرض الواقع، ومن ثم توصيف حال المأزق الشيعي الصفوي في واقعنا المعاصر، بين ما يدين به مذهبياً وما يمارسه سياسياً، وبالتالي تسقط كل مواقفه السياسية، التي يزعم فيها مناصرة بعض الدول العربية، سواءً إزاء السياسات الغربية، أو المشروع الصهيوني، لأنها ستظهر في حقيقة الأمر مجرد غطاء لـ(تصدير الثورة)، الرامية إلى السيطرة على الأنظمة العربية، ومن ثم إسقاطها تمهيداً -حسب زعمهم- لخروج (صاحب الزمان) و(القائم بالأمر)، الإمام الثاني عشر في سلسة أئمة أهل البيت، وهو محمد بن الحسن (المهدي)، ومن يتذكر تصريحات أحمدي نجاد عندما كان رئيساً لإيران حول المهدي، أو يذكر تصريحات المسؤولين الإيرانيين قبل فترة وجيزة، عندما تباهوا بسقوط أربع عواصم عربية بيد إيران، يتضح أبعاد تصدير الثورة الإيرانية، وارتباطها بفكرة الخلافة (الإمامة)، أو ما ينوب عنها وهو ولاية الفقيه المنعقدة اليوم لعلي خامنئي.
لذلك؛ يمكن أن ترى حجم الوجع، الذي استشعره الإيرانيون وهم يرون (عاصفة الحزم) وقد قلعت خيام مشروعهم في اليمن. فتلمس الأثر العظيم والإيجابي لهذه العاصفة. فلم تكن مجرد إعادة للشرعية اليمنية، إنما هي إحياء أمة كادت أن تموت اختناقاً تحت الفيل الفارسي. وبالتالي؛ على الشعوب العربية، وبالذات (شيعة العرب) أن يدركوا أن الإيرانيين يزجون بهم كوقود في حرب طائفية مع أهل السنة، الذين يشكلون غالبية الأمة، تحت غطاء معتقد الإمامة الذي يدينون به، ليس تمهيداً سياسياً لخروج المهدي كما يزعمون ليحكم، إنما استغلالاً لتنفيذ مشروع الهيمنة الصفوية، الذي فشل فيه إسماعيل الصفوي بسبب يقظة العثمانيين وهزمتهم له، ولم يهتم به الشاه بهلوي بسبب نزعته العلمانية، ويريد الخميني ثم الخامنئي أن يحييه. مستغلاً التشيع الصفوي كدافع لثورته، والتشيع العربي كوقود لحرب هذه الثورة خلال تصديرها، رغم أن إيران اليوم تظهر أمام العالم وكأنها تمارس أعمالها حسب مفهوم الدولة الحديثة.
** **
(1) التشيع الديني والتشيع السياسي.. أحمد الكاتب
(2) الشيعة والتصحيح.. للدكتور موسى الموسوي
(3) في الفكر السياسي العربي الإسلامي من الإمامة والخلافة إلى الدولة.. لعبدالعزيز العماري