محمد بن عيسى الكنعان
طغيان الخطاب الإيراني (الصفوي) بعد انقلاب الحوثيين على الشرعية في اليمن، وتساقط مدنه ومحافظاته الواحدة تلو الأخرى بيد عملاء طهران، حتى افتخر أحد الإيرانيين على إحدى القنوات العربية (العميلة)
بأنهم صاروا يتحكمون بأربع عواصم عربية، هذا الطغيان المنتش بلغة الانتصار، أوجد حالة من اليأس في أوساط الشعوب العربية، التي راحت تتخيل مشهد الرايات الإيرانية وهي تجوب المدن اليمنية، كما كان يفعل قاسم سليماني قائد (فيلق القدس) التابع للحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا، غير أن (عاصفة الحزم) قلبت الموازين رأساً على عقب، وأنارت في ظلام اليأس العربي أمل مشرق بالعزة والنصر؛ فتحولت حالة التيهان العربي إلى يقظة واسترداد كرامة، وشعر العرب بالفخر وهم يرون صقور المملكة ودول الخليج تجوب أجواء اليمن، وتقصف أوكار العمالة الحوثية ومخازن الأسلحة الإيرانية.
في خضم التفاعلات الشعبية مع (عاصفة الحزم)، والإشادات الرسمية فيها، كانت مشاعر التعبير الصادق تتصدر المشهدين العربي والإسلامي عبر وسائل الإعلام، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقالات كتاب الرأي والإعلاميين. حتى اختلطت تلك المشاعر العفوية والمعبرة، سواءً كانت صادرة من عامة الناس، أو عن نخب المثقفين، اختلطت مُشكلةً موجة تأييد واسعة، بين الاعتزاز بهذا الواقع الجديد، وبين استدعاء شواهد التاريخ عن أمجاد الأمة العربية، فكان لبعض المثقفين والكتاب والإعلاميين دوراً في إحياء نزعتها (القومية)، في مقابل الهجمة الفارسية ومشروعها الصفوي للهيمنة على المنطقة.
تلك النزعة القومية لم تتحلى بمنطق العقل أو تتعامل بشيء من الحكمة، وهي تحاول أن تصنع مقابلة افتراضية بين (عاصفة الحزم)، وبين أحد أيام العرب الخالدة في التاريخ، كونها لم تستحضر نماذج تاريخية راقية تعكس التفوق العربي خلال الفتوحات الإسلامية، أو خلال مسيرة الحضارة الإسلامية، أو تستعرض حياة شخصيات مؤثرة، أو تحكي أحداث عربية مشرقة في تاريخنا القريب، سواءً الحديث، أو المعاصر، مقابل شخصيات فارسية أو أحداث إيرانية مماثلة، بحيث يكون معيار التقابل أو المقارنة هو حجم الإسهام في نصرة الحقوق، ورد المظالم، وتعزيز القيم الإنسانية. إنما أحالوها مقابلة بين معركتين، فتم تشبيه (عاصفة الحزم) بمعركة (ذي قار) التاريخية، التي وقعت بين العرب والفرس العام 609م.
هذا التشبيه لا يحقق أبسط أبجديات الموضوعية، فضلاً عن المنطقية، فحتى لو قبلنا التعامل بمبدأ النزعة القومية كمرجعية للتشبيه بين معركة (ذي قار) وعملية (عاصفة الحزم)؛ فإن (ذي قار) التي وقعت في الجاهلية، لم تكن عربية نقية، بمعنى لم تكن خالصة بين العرب من جهة والفرس من جهةِ أخرى، فالطرف الفارسي في المعركة ضم معه قبائل عربية موالية لكسرى، سواءً بالتبعية، أو الخضوع، أو الخوف، مثل: تغلب، وقضاعة، وإياد، وطيء، في مقابل الطرف العربي الذي ضم بني شيبان ومعهم قبائل بكر بن وائل. كما أن أسباب هذه المعركة تبدو تأديبية من قبل كسرى، وانتهازية من جهة زيد بن عدي العبادي أحد الموالين لكسرى، وحمية عربية من جهة هانئ الشيباني. وملخص سبب هذه المعركة؛ أن كسرى رغب في الزواج من فتاة عربية بعد أن سمع عن الجمال العربي، فاستغل زيد بن عدي العبادي هذه الرغبة، فأغرى كسرى بالزواج من بنت النعمان بن المنذر، الذي كان ملك الحيرة وتابع لكسرى، إلا أنه رفض هذه المصاهرة، فطلبه كسرى للمثول بين يديه، فأدرك النعمان أنه مقتول، فطاف بين القبائل العربية ليحتمي بإحداها، لكنها اعتذرت لعدم قدرتها على مواجهة كسرى، إلا هاني بن مسعود الشيباني، الذي استقبله ووقف معه، غير أنه أشار عليه بالذهاب إلى كسرى معتذراً مع هدايا يخفف بها من غضبه، وأنه - أي الشيباني - سيتكفل بحماية نساء النعمان وماله وسلاحه في حال قتله، استحسن النعمان هذا الرأي وذهب إلى كسرى الذي لم يتردد في قتله، وفي قصة طويلة طالب كسرى بما لدى الشيباني، إلا أنه رفض حماية للذمام، فجيّش كسرى جيشاً كبيراً ومعه قبائل عربية موالية ضد بني شيبان التي استنصرت بقبائل بكر بن وائل الكبيرة، فكانت معركة (ذي قار)، التي انتصر فيها العرب، وسميت بذلك نسبة إلى ماء في العراق.
في المقابل؛ نجد أن المعيارين الأخلاقي والشرعي لعملية (عاصفة الحزم) مختلف تماماً عن (ذي قار)، فهذه العاصفة ليست بين طرفي عربي وفارسي، فهي مؤيدة من كل العرب، فضلاً عن دول إسلامية أعلنت تأييدها، وهي إصلاح بين إخوة عرب وفق شرع الله، بغى أحدهم على الآخر، فكانت نصرة للمظلوم على الظالم، وحفاظاً على استقرار اليمن، ووحدته بإعادة الشرعية إليه، والقضاء على عملاء إيران من الحوثيين وغيرهم، الذين فرقوا جمع اليمن، وعبثوا بأمنه، وأفسدوا اتفاق أطيافه بما عرف بـ(المبادرة الخليجية). لا شك أن لإيران ضلع في أحداث اليمن بدعمها الحركة الحوثية المفسدة، ولكن المعركة ليست موجهة لها وإن كانت رسالة واضحة بأن أراضي العرب للعرب، وأن قضايا العرب بيد العرب، بمعنى أن ما يجري في اليمن هو خلاف داخل البيت العربي، وقادة العرب الكبار هم من يصلح هذا الخلاف إن شاء الله.