محمد بن عيسى الكنعان
أقل ما يمكن قوله في وصف المواقف الغربية تجاه ما يسمى: (إبادة الأرمن)، التي أحيوا ذكراها في 24 إبريل، بأنها (انتهازية أخلاقية) تتجاوز النفاق السياسي، الذي تمارسه عادةً الحكومات الغربية مع دول ضعيفة..
أو أقليات مهمشة من أجل تمرير مصالحها العليا. هذه الانتهازية لا تتوقف عند استغلال عواطف الشعب الأرمني في قضيتهم التاريخية منذ مئة عام بغض النظر عن صحتها أو بطلانها، بقدر ما تعكس الازدواجية في التعامل مع القضايا التاريخية للشعوب أو الدول، والانتقائية الأخلاقية لتلك القضايا، بما يخدم شعوبا معينة كضحايا اليهود في أفران الغاز النازية (الهولوكست)، كما أن تلك الانتهازية تؤكد (الوقاحة السياسية) في تحميل شعب معاصر، أو دولة حديثة تبعات وقائع تاريخية حدثت في خضم ظروف قتالية، أو حروب إقليمية أو عالمية؛ مثل: الإبادات الجماعية، أو المذابح المروعة، أو الجرائم التي تصنف بأنها ضد الإنسانية كقتل الأسرى، أو تعذيبهم. فضلاً عن الرغبة الغربية المتأصلة، الرامية إلى تشويه التاريخ الإسلامي، من خلال الطعن في العهد العثماني باعتباره جزءا من ذلك التاريخ.
إن استدعاء حوادث تاريخية لتمرير أجندة سياسية، أو محاولة فرض واقعة تاريخية مشكوك فيها؛ على أنها حقيقية، تتطلب قبل كل شيء أن تكون منصفاً في كل مواقفك السياسية والأخلاقية على مستوى العالم، وأن يكون سجلك التاريخي نقياً من ارتكاب أية جرائم أو إبادات، أو مذابح بشرية.
فهل الحكومات الغربية التي أعلنت تأييد موقف الأرمن، أو شاركت بإحياء ذكرى ما تسمى (الإبادة الأرمينية)؛ ترى أن عموم مواقف الغرب العالمية تتصف بالإنصاف، وأن سجل الغرب التاريخي القديم أو الحديث كان ناصع البياض، ومعطرا بأخلاقيات الحروب؟ قطعاً لا، سواء في حق المسلمين أو في حق غيرهم.
فقضية فلسطين، والشيشان، وكشمير وغيرها؛ شواهد حاضرة على مواقف الغرب غير النزيهة، وأحكامه غير المنصفة، أما على مستوى سجله وممارساته عبر حوادث التاريخ، فهل نسي الغرب (الحروب الصليبية)؟ وهل نسي ضحايا (محاكم التفتيش) المروعة؟ وهل نسي ضحايا (الاستعمار الغربي)؟ وهل نسي مجازر الفلسطينيين تحت الوصاية الغربية؟ وهل نسي مذبحة سربينتيسا البوسنية تحت الحماية الغربية الدولية؟ وهل نسي الذي ماتوا في رحلات السخرة وتجارة الرقيق من أفريقيا إلى الأرض الجديدة؟ وهل نسي حروب الإبادة المروعة للهنود الحمر في أمريكا، أو في جزر الفلبين؟ وهل نسي ملايين المسلمين الذين قضوا خلال التهجير بعد الثورة البلشفية؟ وهل نسي الأعداد الهائلة للمسلمين، الذين ماتوا في جزيرة القرم؟ كل هؤلاء لم يكونوا ضحايا حروب، بحيث يمكن تبرير موتهم تحت نظرية: (لكل حرب قتلى).
إنما سقطوا بفعل الممارسات الغربية الاستعمارية. بل لماذا نبتعد، فيكفي أن نسأل الغرب عن مصير ملايين المسلمين الذين، أبيدوا على يد الروس، والصرب، والأرمن، واليونانيين والبلغار؟ خلال الفترة التاريخية التي شهدت ما يسمى (إبادة الأرمن).
هذا السجل التاريخي الغربي غير المشرف، الذي يشكل علامة عار في جبين الإنسانية؛ هل يمكن أن تتحمل تبعاته الحكومات الغربية اليوم؟، بدايةً بالاعتذار الرسمي لكل الشعوب المتضررة من كل أحداثه، ثم الإدانة العلنية لتلك الأحداث وتجريم دوافعها، ثم تحمل كل التعويضات المالية والمادية الممكنة للشعوب التي تعرضت لإبادات جماعية أو مذابح تاريخية، أو جرائم ضد الإنسانية. خاصةً أن هذه الحكومات تحمّل الدولة التركية (الحديثة) تبعات ما جرى فيما يسمى (إبادة الأرمن) على افتراض وقوعها.
فهل يقبل الأوروبيون أن يتحملوا ميراث جرائم ومذابح الحروب الصليبية، وإبادات محاكم التفتيش على اعتبار وقوعها قبل قيام الدول الغربية (الحديثة) إن هذه الدول لم تعتذر عن مذابح وجرائم (الاستعمار الغربي) التي جرت أحداثها المروعة في ظل الدول الغربية الحديثة، ناهيك عن أن تعتذر وتتحمل تبعات الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش.
مع ذلك؛ لنصدق المسعى الغربي في إدانة ما يسمى (إبادة الأرمن)، وأنه ليس انتهازية أخلاقية، ولا وقاحة سياسية، بل ربما ذهب بعضنا مع الغربيين الذين تقاطروا على العاصمة الأرمينية ياريفان لإحياء ذكرى هذه الإبادة المزعومة. هل يمكن أن نسأل الغرب المتباكي على أشلاء الضحايا عن هذه المفارقة الحضارية في مواقفه (الإنسانية)؟، عندما يطالب بإدانة (إبادة جماعية) مضى عليها مئة عام، لازالت أسيرة اللغط التاريخي، ويتجاهل إبادة مستمرة في سوريا منذ أربعة أعوام على يد عميل الصفويين، وإبادة بطيئة في غزة المحاصرة منذ العام 2008م على يد الصهاينة المدعومين غربياً. أين هذا الغرب (الإنساني) من الإبادة المتواصلةفي أراكان المسلمة؟، حتى إن هيئة الأمم المتحدة التي تمسك بتلابيبها الحكومات الغربية لم تحرك ساكناً. وأين هذا الغرب المنقب في أقبية التاريخ؛ عن إبادة مسلمي أفريقيا الوسطى من قبل المدعومين غربياً؟
هذا الموقف الغربي الانتهازي في محاولة استغلال إبادة غير معروفة بين طيات التاريخ، هو ما يفسر الصمت، وعدم التجاوب تجاه الدعوات، التي أطلقتها الحكومة التركية؛ بأنها على استعداد لفتح الأرشيف العثماني بمحتوياته ووثائقه المليونية، للتأكد من صحة الإبادة الأرمينية.
لأن المصلحة الغربية أن تبقى دعوى هذه الإبادة عائمة بين الصحة والبطلان، بحيث تُستغل إعلامياً وسياسياً لتشكل وسيلة ضغط غربية على تركيا في قضايا إقليمية وعالمية.
خاصةً أن هناك رأياً تاريخياً يُرجع تجاهل الغرب لفتح أرشيف هذه القضية، إلى أن الغرب، وبالذات روسيا كانوا السبب وراء حدوث عملية التهجير الأرمني من شرق وجنوب تركيا إلى الشام والعراق، فهم من حرضوا الشعب الأرميني على الدولة العثمانية.
هذا إجمالاً الموقف الغربي؛ فماذا عن الواقعة نفسها التي تعرف بما يسمى: (إبادة الأرمن)، أو (المذبحة الأرمينية)، أو (الإبادة الجماعية الأرمينية)؟ أغلب الروايات المتعلقة بهذه الواقعة، سواءً تركية، أو أرمينية، أو غربية، أو حتى روسية، تتفق في مسألتين، وتختلف بثلاث، تتفق في سقوط عدد كبير من الضحايا الأرمينيين، وفي واقعة التهجير الجماعي، وتختلف في: عدد أولئك الضحايا، والدافع الرئيس للتهجير، ومسؤولية الدولة العثمانية، فالأرمن يرون أن ضحايا ما يسمونها إبادة خلال الحرب العالمية الأولى يفوق عددهم مليون ونصف المليون قتيل بسبب عمليات التهجير القسري والقتل الممنهج، اللذين قامت بهما الدولة العثمانية، لكن كل من يردد هذه الرواية، أو حتى يؤيدها لم يعط سبباً منطقياً، أو جواباً مقنعاً للسؤال القائم: لماذا قام العثمانيون بذلك التهجير أصلاً؟، الإجابة تبدو بين طيات حقيقة تاريخية مفادها أنه بينما كانت الدولة العثمانية منشغلة في صراعها مع دول الغرب الاستعماري، خلال الحرب العالمية الأولى، الذي بلغ ذروته في معركة جناق قلعة (تشانك كاله) 25 إبريل 1915م، وانتهت بانتصار العثمانيين، كانت روسيا القيصرية تهاجم مناطق وقرى شرق وجنوب تركيا العام 1914م، وبمساعدة المتمردين الأرمن الذين استفادوا من قرار الدولة العثمانية بتسليح مواطنيها على اعتبار الأرمن عثمانيين، فأرمينيا كانت في ذلك الوقت ضمن حواضر الدولة العثمانية، ولأنها كانت تتطلع للاستقلال كما فعلت بلغاريا، فقد شارك الأرمن مع الروس في ارتكاب مذابح مروعة وعمليات حرق لقرى تركية، فلم يتردد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإصدار قرار التهجير لقطاع كبير من الأرمن يُقدر بنصف مليون أرمني نحو الشام والعراق ومناطق أخرى؛ لهدف قطع الطريق على التعاون والإمداد العسكري القائم بين روسيا القيصرية والمتمردين الأرمن، وبسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، وصعوبة الطبيعة القاسية، وسوء الأحوال الجوية، وانتشار الأمراض واختلال الأمن العام 1915م؛ سقط خلال هذا التهجير قرابة 300 ألف أرمني في مقابل سقوط عدد مقارب من الأتراك؛ فعلى سبيل المثال تقول بعض المصادر المحايدة أن نسبة (62%) من مسلمي إقليم (وان) قد فقدوا، كما فُقد (42%) من مسلمي بدليس وغيرهما من مناطق شرق وجنوب الأناضول.
وهذا ما أكده المؤرخ الأمريكي جاستين ماكارثي في كتابه: (الموت والنفي)، تحدث خلاله عن عمليات القتل والتهير التي تعرض لها المسلمون في بلاد البلقان، والقوقاز، وشبه جزيرة القرم، ومنطقة شرق الأناضول التركية، كما أكد مجموعة من المؤرخين الأمريكيين الذين حققوا في هذه القضية العام 1985م، ونفوا فيه مزاعم الأرمن، ويكفي أن تعرف أن تعداد الأرمن في عهد الدولة العثمانية وتحديداً العام 1914م؛ كان مليون و200 ألف أرمني، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى العام 1918م، كان تعدادهم يفوق المليون بقليل. فكيف أبيدوا؟ فمن أباد من؟