د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
مهما حاول المرء أن يجد كلمات يصف بها تلك الجريمة الإرهابية النكراء التي ارتكبها المجرم المنتحر ومن جهزه للموت، فإنه سيعجزه البيان. في كل جريمة صغيرة أو كبيرة يهمنا دائماً أن نعرف من هو المقتول ومن القاتل، ومن هو الذي دفع القاتل لارتكاب الجريمة..
..وما هو الدافع للجريمة. هنا- في هذه الجريمة البشعة - ليس المقتول واحداً بل جماعة من واحد وعشرين مصلياً ومعهم أربعة أضعافهم من المصابين. وكانوا منشغلين بعبادة ربهم، أبرياء مسالمين عزّلاً من أي سلاح. كانوا جماعة من مواطني القديح، مثل بقية أهل القطيف، بل مثل بقية شعب هذا الوطن المسلم أهله. لذلك فالمقتولين ليسوا فقط من سالت دماؤهم، بل كل من سالت دموعهم حزناً على من قُتِل وغضباً على من قَتَل، في كل أرجاء هذا الوطن. لذلك لا يكون العزاء إلا بالتماسك وتعزيز مظاهر القربى والتضامن مع أهل هذه البلدة الكريمه. وما مشاعر التأثر والتعزية والتعاطف التي عبّر عنها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وما مسارعة سمو أمير المنطقة ووزير الصحة ووزير التعليم بالحضور إلا نموذج لذلك، يمكن أن تتبعه زيارات ممثلين لمجلس الشورى ومجالس المناطق. وما مسارعة هيئة كبار العلماء باستنكار وتجريم هذه الفعلة الشنعاء إلا مظهر له دلالته العميقة من مظاهر الأخوّة الإسلامية والروح الوطنية التي تتجاوز تنوّع المذاهب؛ فإن لهذه الهيئة اعتبار عظيم في أعين المواطنين، وكلمة مسموعة تطغى على ضلالات مثيري الفتن وغلاة التطرف. وإن كان هناك جهة محلية تمثل علماء المذهب في القطيف والإحساء فإنه يمكن أن يكون لها بالتعاون مع الهيئة دور مماثل يقوّي اللحمة الوطنية والسلم الاجتماعي اللذين تتميز بهما بلادنا وتحافظ عليهما قيادتنا الحكيمة، وهي الحريصة على ما هو أبلغ في دحض باطل من يبغى الفتنة والنزاع والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وهو إعطاء الأولوية للشراكة الوطنية في التمتع بالخدمات والمشاريع التنموية والمقومات المعيشية، ومتابعة التوسع في مدّ سلسلة الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق العامة والطرق والمشروعات الصناعية والزراعية لتنتظم كافة المناطق والمحافظات بما يلبي احتياجات السكان. وتكفي الإشارة هنا إلى ما يُنشأ من المدن الطبية والمستشفيات الحديثة، وما تم إنشاؤه من الجامعات أو ما هو مطروح للإقرار من مجلس التعليم العالي (الذي هو الآن جزءٌ من مجلس التنمية والشؤون الاقتصادية) مثل مشاريع الجامعات في القطيف والدوادمي وينبع مثلاً، وما يتم إنشاؤه من مدن صناعية.
وماذا عن القاتل المجرم المنتحر؟ إنه شاب في مقتبل العمر، لم يدخل المسجد ليصلي ويعبد الله، بل دخله متمنطقاً بحزام ناسف قاصداً القتل- أو الإبادة على الأصح، لأن الجريمة تكون أكبر صدى كلما زاد عدد الضحايا، فالقتل في حد ذاته لا يهمه، بل المهم هو عدد المقتولين وما يخلفه ذلك من صدى وأثر. هو إذن لم يدخل المسجد ليعبد الله بل ليطيع الشيطان. وقد أطاعه في أمرين؛ الأول أنه قتل نفسه مخالفاً شرع الله الذي يحرّم قتل النفس {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} من آية 30 النساء، ولم يخبره معلّموه أن هذا ليس استشهاداً لأنه لم يُقتل في معركة يجاهد فيها كفاراً معتدين أو أعداءً مهاجمين، بل هو بادر بقتل نفسه من أجل أن يقتل مصلين آمنين. وهذا هو الأمر الآخر الذي أطاع فيه الشيطان؛ إذ قتل مسلمين يؤمنون بوحدانية الله ورسالة محمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (93) سورة النساء. فأي خزي أكبر من هذا يتمناه الشيطان لمطيعيه؟ وبأي وجه سيواجه حسابه العسير في الدار الآخرة: هل سيقول كما يقول الكفار يوم تقلّب وجوههم في النار: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (67) سورة الأحزاب؟ نعم، هم ضللوه بتربيته على أحقر الغرائز البدائيه؛ غريزة الكراهية والعداوة لمن يختلف عنه في المذهب. ولكن لن ينجيه من العذاب انصياعه لإيحاء هؤلاء الكبراء وتركه لكتاب الله وسنة رسوله، وفيهما الهداية للحق المبين. فالشرع المطهر أباح للمسلمين الأكل من طيبات أهل الكتاب وتزوّج نسائهم وهم مختلفون عنهم في الدين كله وليس في المذهب فقط، فكيف تبيح لنفسك أيها القاتل تكفير من هم على دينك وإن اختلفوا عنك في المذهب؟ ليس المطلوب منك أن توافقهم على مذهبهم وما وجدت فيه من البدع، ولكن هذا شيء، وكراهية أصحاب المذهب وموقف العداء منهم شيء آخر مختلف لأن هذا هو التطرف بعينه الذي هو وقود الفتن والحروب الطائفية - {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (53) سورة الإسراء. أؤلئك الكبراء الذين أضلوا أتباعهم فدفعوهم لارتكاب الجريمة فضحوا أنفسهم وكشفتهم أجهزة أمن ادولة في أقل من يوم واحد. إنهم من خلية كوّنها تنظيم داعش في المملكة. ولم ينس التنظيم أن يكون أعضاء الخلية من مدن مختلفة وأسماء عوائل متعددة حتى (يتفرق الدم بين القبائل- كما يقال). ولكن هيهات أن يتقبل مجتمعنا هذا المنحى الإجرامي الذي يجرّ الشباب المراهقين بذريعة التعصب المذهبي والوعد بالشهادة والحور العين (على نمط ما يفعل تجار المخدرات في استدراج المراهقين بالنشوة والجنس) إلى ارتكاب جرائم قتل من حرم الله قتلهم في السوق أو في المسجد أو في العزاء - لا يهمّ ما دامت الدماء تسيل والأجساد تتمزق. وأخيراً ما هو الدافع الحقيقي لارتكاب هذا الفعلة الإجرامية وأشباهها؟ هل هو الغيرة على الإسلام، فالإسلام من ذلك براء. كل ما في الأمر أن الذين يشرعنون لهم أخذوا من بعض النصوص الشرعية ألفاظها وتركوا غاياتها ومعانيها الحقيقية أو من النصوص الضعيفة والموضوعة ما يحلو لهم وركّبوها على أباطيلهم وغاياتهم هم ووضعوا أحكامهم بمنزلة حكم الله. وأول أباطيلهم تكفير المسلمين الذين لا يتبعون تأويلاتهم وتشريع جهادهم. لقد أنزلوا الجهاد الحق في سبيل الله أيام نشر الدعوة وقتال المعتدين على ديار المسلمين من ذروة سنام الإسلام إلى موطئ قدم ذوي الغايات السياسية والسلطوية من الدول والتنظيمات المتطرفة؛ فالبحث عنهم سيكشف الدافع الحقيقي. أما الكراهية الطائفية التي يثيرها أصحاب تلك الغايات في نفوس أتباع أي مذهب كان، فما هي إلا الوقود الذي يضرم نار الفتن وينشر الإرهاب. فالمتطرفين - سواءً كانوا من دولة تريد السيطرة أو تنظيم حزبي مؤدلج أو منظمة إرهابية - لا يتحركون ويحيون إلا في غبار الفتن التي يثيرونها، أما في مجتمعات آمنة مستقرة - مثل المملكة - فليس أمامهم فرص للبقاء.