د. جاسر الحربش
من المنقول عن الموروث الشعبي في العراق أن العراقي بمفرده شخص ذكي وحساس ومرهف المشاعر، ولكن العراقيين في مجموعات يتحولون إلى أغبياء ووحوش. ما يجري في العراق عبر الثلاثين عامًا الماضية يشكل درب آلام وفواجع تفوق آلام الهنود الحمر والأرمن والفلسطينيين مجتمعين، وقد يبدو لأول وهلة أنه من أفعال العراقيين كمجموعات متوحشة ببعضهم البعض. السؤال هو، هل هذه الفواجع المستمرة كلها من فعل العراقيين بأنفسهم، أم أن هناك من يسهلها لهم ويمولها ويشارك فيها أيضًا بالفعل المباشر.
اتساقًا مع رأي العراقيين عن أنفسهم، الذكاء والإحساس المرهف للفرد عندما يكون لوحده، مقابل الغباء والتوحش في المجموعة، هل تكفي هذه الخصوصية إن صحت لفهم العذاب الذي يتعرض له العراقيون خلال ثلاثين سنة متواصلة، بمعنى وجود مرض نفسي عراقي جماعي لتعذيب الذات، على غرار ما هو ثابت في علم النفس ولكن فقط عن الإنسان المريض كفرد، أم أن كل هذا التعذيب المتواصل مبرمج ومقصود ضمن خطة تحيكها أطراف خارج العراق لأهداف مستقبلية. بكل تواضع شخصي أعتقد إلى حد اليقين بوجود خطة تقوم على فكرة أن ينال كل مكون اثني أو طائفي أو عقدي في العراق حصته من العذاب والإذلال، بحيث يقبل بالتقسيم لاحقًا بامتنان وعن طيب خاطر، وبحيث تلاحقه كوابيس الماضي فلا يفكر في العودة إليه.
لمن قد تكون مراحل التعذيب التي تعرض لها العراقيون قد سقطت من ذاكرته في دول الجوار العربي، الذي يشكل العراق جزءًا أساسيًا من كيانه الحضاري، أحاول هنا أن استعرض أهم المراحل التي مر بها العراقيون خلال الثلاثة عقود الأخيرة.
المرحلة الأولى بدأت مع هزيمة الجيش العراقي المنسحب من الكويت. تعرض الجيش العراقي المهزوم والمستسلم والمنسحب لعملية حرق وإبادة تركت خطًا طويلاً من الجثث المتفحمة والآليات المدمرة ممتدًا من الصحراء الكويتية عبر منفذ صفوان إلى داخل العراق لعدة أميال. آلاف الجنود العراقيين وربما عشرات الألوف الذين أحرقتهم قنابل الطائرات لم تصل عليهم صلاة الجنائز ولم يدفنوا وتركوا متفحمين في العراء، ومن لم يتمكن من الهرب أهالت عليهم البولدوزرات الرمال وردمتهم في خنادقهم الصحراوية. كانوا مجرد مجموعات من البؤساء الذين سحبوا من قراهم وحقولهم وممدنهم قسرًا وسخروا لغزو الكويت، لكن دول التحالف اعتبرتهم معتدين بالجملة. المنسحبون الفارون منهم أحرقوا على خط صفوان من السماء والباقون على الأرض ردموا أمواتا وربما كان بينهم أحياء تحت كثبان الرمال. تلك كانت أولى مراحل التعذيب التي تعرض لها العراقيون.
المرحلة الثانية بدأت بحصار التجويع والنفط مقابل الغذاء والدواء، في تلك المرحلة نفق (بالمعنى الحرفي للكلمة) مئات الآلاف من الأطفال العراقيين بسبب نقص الحليب والدواء، وعرف العراقي في الهلال الخصيب معنى الجوع والعطش على ضفاف الأنهار المسممة بمخلفات القذائف وقاذورات المجاري والجثث المتحللة.
بعد مرحلة التعذيب بالحصار والتجويع حلت المرحلة الثالثة التي ما زالت مستمرة وأصبحت الأكثر فظاعة وإمعانًا في تعذيب العراقيين وإذلالهم. في عام 2003م هاجمت الجيوش الأمريكية والبريطانية ما تبقى من العراق، بإشراف وزير الدفاع الأمريكي السفاك دونالد رامسفيلد والمحافظين الصهاينة المتطرفين في الإدارة الأمريكية، وبتوقيع رئيس أمريكي أحمق له خلفية دينية عنصرية. في هذه المرحلة تم نسف بغداد وإحراقها مع كل البنى المدنية العراقية، ما عدا وزارة النفط والسفارات الغربية في بغداد. الجيش العراقي والحرس الجمهوري وحرس الحدود وسلطات الأمن الداخلي تم حلها وتسريحها بجرة قلم من الحاكم الإداري الأمريكي، ثم سلمت العراق عارية منهكة جائعة عطشى إلى الحكومية المذهبية العنصرية في طهران. كل عراقي حاول المقاومة أو الاحتجاج صفدت يداه وقدماه ورمي للكلاب المتوحشة في سجن أبو غريب وبوكا وأقبية بيان جبر صولاغ. إيران لم تكذب خبرًا عندما استلمت الضحية فأكملت المأتم العراقي بتسليط ثلاثين منظمة طائفية إرهابية، شيعية وسنية على العراقيين، ودقت الأسافين العرقية والمذهبية والعقدية في صدور الشيعة والسنة والمسيحيين والعرب والكرد والتركمان واليزيديين، ولم يسلم من خبثها وكيدها أي مكون عراقي مهما صغر أو حاول النأي بنفسه عن الفتنة الماحقة.
ما زال تعذيب العراقيين مستمرًا، وأصبح من الواضح أن عدد الجلادين ثلاثة، هم الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني وحكومة الولي الفقيه في إيران. الهدف واضح، تقسيم العراق بعد أن يصبح التقسيم نعمة وأمنية ومطلبًا يتوسله، بل ويتسوله كل مكون عراقي يبقى على قيد الحياة.
لقد كانت الإدارة الأمريكية بعد غزو 2003م، وبسلطات الحاكم الإداري باول بريمر تستطيع بسهولة كف الأذى الإيراني عن العراق بواسطة إنذار واحد بتحويلها إلى عراق آخر، وكانت تستطيع منح العراقيين فرصة الحكم الديموقراطي والإدارة الجديدة، ولكن تشابك المصالح بين الأطراف الثلاثة كان يخطط للمستقبل البعيد، الذي لا يحلم بعده عراقي واحد بعراق موحد. نفس الخطة يتم تطبيقها في سوريا حاليًا، وتظل قابلة للتطبيق في أي مجتمع قابل للاختراق العرقي والمذهبي.