عبدالعزيز السماري
ما يحدث من تهديد للوحدة الوطنية هو امتداد لتاريخ طويل لثقافة عدم الاستقرار في المنطقة، التي كانت سمة من سمات الدولة العربية في التاريخ الإسلامي، وقد لا نحتاج إلى قراءة فكرية جديدة، فقد أشار المؤرخ العربي ابن خلدون أن الدولة العربية منذ القدم تقوم على وازع وعصبية، وكان الخلل في ولادتها ثم وفاتها هو الاستمرار على نفس الخطاب، برغم من انتهاء صلاحيته، لذلك كان إعادة اكتشاف الدولة في الغرب في عصر النهضة، ثم تعديل مسارها من العصبية إلى الوطنية، التي يحكمها الاقتصاد والمجتمع المدني والتسامح والتعددية، النقلة التي حولت الدولة إلى واحة دائمة للاستقرار والرخاء.
إغفال هذه الأمور في الدولة العربية يفتح الباب تكراراً إلى الحل القديم، ويعيد الحياة إلى مقولة: إن الدولة حالة مؤقتة في الواقع العربي، وتحكمها عصبية جديدة ووزاع متجدد، من أشهر أسلحته وأمضاها سلاح التكفير، ثم استخدامه في إحداث الفوضى في البلاد، وبدء مرحلة الصراع الدموي من أجل إحياء دولة جديدة على أطلال دولة أخرى، وما يحصل الآن هو محاولات من بعض تيارات الفكر الديني لإحياء عقيدة التكفير لإحداث الفساد والدمار وتهديد الوحدة الوطنية، وقد كان مولد هذه العصبية الجديدة بعد حركة جهيمان وأثناء مرحلة الجهاد الأفغاني، عبر إحياء المذهب التكفيري ضد الدولة للوصول إلى أغراض سياسية بحتة.
وكان أهم شخصية في إحياء العصبية التكفيرية الجديدة هو (أبو محمد المقدسي)، والذي ارتبط بعلاقة جيدة بالسلفيين أهل الحديث أو جماعة جهيمان العتيبي بعد خروجهم من السجن، وكان أول من أطلق حملة التكفير للدولة وللعلماء، من خلال كتابه «الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية»، وكانت أفكاره تستخدم الإرث السلفي في نجد، ثم إعادة إنتاج بعض أفكاره بعد تحريفها لخدمة الأغراض السياسية، وكان المثير في الأمر أن تأثير أفكاره في المجتمع السعودي كان أكثر من وطنه الأردن، وكأنه بذلك يثبت أن عقول الشباب في المجتمع السعودي مهيأة لقبول مثل هذه الأفكار، وذلك لأسباب لها علاقة بالتعليم ووجود علماء دين مؤمنين بهذا الفكر، وساهم في زيادتهم الاستمرار في تدريس العصبية والوازع الديني بنمطهما القديم، ثم التأخر نسبياً في إحياء الدولة الحديثة التي تقوم على الصناعة والاقتصاد وثقافة العمل والمجتمع المدني.
ما حدث بعد ذلك كان كارثياً، فقد خرجت من عباءة التكفير جماعة القاعدة، ثم توالى انقسام الجماعة التكفيرية إلى نماذج أصغر، لكن أشرس وأكثر تدميراً، ووصلت في شراستها وعصبيتها إلى مرحلة تجنيد شباب في مقتبل العمر، بعضهم كان في الحضانة عندما حدث تفجير الحادي عشر من سبتمبر، وبرغم من ذلك نجح المنهج التدميري في تجنيدهم، ثم إقناعهم بتفجير أجسادهم للوصول إلى أغراض السياسية، وهي إحياء العصبية وإستخدام الوازع الديني المتطرف وإكراه الناس على قبوله رغماً عنهم، وكان هذا المنهج الأكثر دموية في تدمير الدول في تاريخ العرب والمسلمين.
يلاحظ المرء في الآونة الأخيرة تصاعد وتيرة العنف من قبل هذه الجماعات، ويقابل ذلك ارتفاع في المساحات التي يحكمونها في الشام والعراق، والذي كان من أهم أسبابه تسييس الدين من قبل بعض الدول، وعلى رأسها دولة إيران، وتأخر بعضها عن الانتقال إلى مراحل أكثر تقدماً، ويساهم في ذلك غض النظر من قبل الدول الغربية لأسباب استعمارية ورغبات غير مباشرة لتقسيم الدول العربية، وهو ما يعني أن المنطقة تمر في مرحلة خطرة، وتحتاج إلى حكمة وثبات، وقبل ذلك إلى إحياء خطاب وطني يوحد الجميع ضد هذا الفكر.
الخطاب التكفيري ليس بجديد على العقول المسلمة، وله تاريخ طويل في صعود وسقوط الدول، وستكون مواجهته في غاية الصعوبة في ظل وجود خلفية ثقافية لهذا الفكر في العقول، ولابد من العمل على توجيه طاقات الشباب وعقولهم إلى التعليم العال في الجامعات والعمل المهني في المصانع ومجالات الاقتصاد المتعددة، كما يجب التكفير جدياً في تصحيح بعض المسارات والترهل في بعض الأجهزه، ثم محاربة العوامل الإدارية والاجتماعية التي تساعد في انتشار مثل هذه الأفكار التدميرية، وذلك من أجل الحفاظ على هذا الإرث الوطني الجميل من الفوضى، والله المستعان.