زكية إبراهيم الحجي
ما بين الكرم الذي هو من سمات المجتمع والإسراف الذي نهى وحذر منه القرآن الكريم والسنة المطهرة.. أين يقع الوعي الاستهلاكي عند أفراد المجتمع.
مفهوم الاستهلاك من أعقد المفاهيم الاجتماعية وذلك لارتباطه الوثيق بكل أطياف المجتمع.. وما يستهلكه فرد من أفراد المجتمع هو نتيجة تلقائية لما يستهلكه الآخرون..
بل قد يكون تقليداً للغير يصل حد تجاوز الحاجة إلى الترف والإسراف والإنفاق غير الرشيد.. لذلك فإن أي مجتمع يدعي فيه أفراده التفاخر والتفوق من خلال استهلاك ما ينتجه الآخرون هو مجتمع لا يستطيع التحكم في رغباته الحياتية.
منذ ظهور العولمة عام 1990 م وهي تهدف إلى نشر ثقافة الاستهلاك وتصدير ثقافة السوق وشل إرادة الإنتاج وقتل الإبداع في بعض الدول..وعمدت إلى أن يتحقق ذلك جنباً إلى جنب مع إغراق الدول التي تغزوها العولمة بسلع متجددة ومبهرة ساعدها في ذك الدعايات البراقة الجاذبة التي تتصدر وسائل الإعلام المختلفة لتحطم بذلك القيم الأخلاقية لثقافة الاستهلاك ويبقى الهدف الأكبر محصوراً في تحقيق المزيد من فرص الكسب والثراء على حساب الشعوب والمجتمعات.. وبالتالي نكون قد أضفنا هوية جديدة إلى الهويات المتعددة التي نتغنى بها ألا وهي الهوية الاستهلاكية المحضة.
إن ثقافة الاستهلاك ثقافة ذات نظرة بنائية شاملة في ضوء المفاهيم والأفكار التي تتعرض لها المجتمعات وتخضع لسحرها الخطير الذي يتجلى في تدبيج السلع المعروضة بالكثير من الرموز البراقة التي تجذب المستهلك دون تفكير أو اعتراض إنها نزعة الاستهلاك المفرطة والتي تكاد أن تكون قاسماً مشتركاً بين فئات المجتمع وبمختلف طبقاته وفئاته خاصة فئة الأطفال والشباب حيث تسربت هذه النزعة إليهم بقوة ونفوذ كبير فهي في قاموس حياتهم عنوان للتباهي والتفاخر.. وهذا الأمر يشكل خطراً على المجتمع لما ينتجه من مظاهر قد تعصف بتماسك المجتمع وتعايش فئاته وأفراده ما بين بعضهم البعض.
الاستهلاك كثقافة تجعل الفرد تابعاً باحثاً عن كل جديد ليستمتع به فيقع فريسة لسلطة قهرية تعتمد كل الوسائل المغرية لإيقاعه في حبائلها عندها يصبح هذا الفرد عالة يقتصر وجوده في المجتمع على الاستهلاك والبحث عما يشبع غرائزه دون شعور بأي دور اإيجابي في حياته الآدمية.
أعجب كل العجب بأننا دائماً ما نطالب بالتغيير في أمور قد تكون ثانوية وننسى أو نتناسى بأن هناك أموراً هي من الظواهر الملحة التي يجب أن تأخذ حقها في طاحونة التغيير قبل غيرها من الظواهر الثانوية.. إنه التغيير في العقلية الاستهلاكية وإعادة تكوين العقلية المنتجة كي لا نكون تحت لواء الفكر الاستهلاكي الذي يستهلك ما لا ينتج.
دعوني أعود بكم إلى ذاكرة التاريخ إلى قبل ميلاد العولمة ب 1300 سنة وبالتحديد الزمن الذي عاش فيه «أبو الأسود الدؤلي» وكلنا يعرف تاريخ هذا الرجل..ففي ليلة اشترى «الدؤلي» حصاناً وفي نفس تلك الليلة وبينما هو نائم استيقظ على صوت غريب فلما تحسس الأمر وسأل قالوا له:إنه الحصان يقضم شعيره طوال الليل فقال أبو الأسود الدؤلي مقولة حكيمة.. والله لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه والله لا أترك في مالي إلا ما يزيده وينميه.. وعندما أصبح باع الحصان واشترى بثمنه أرضاً للزراعة.. حكمة أبو الأسود الدؤلي جعلته يرفض الرضوخ للعقلية الاستهلاكية منذ اليوم الأول كان يؤمن بأن من يسلم نفسه وماله للعقلية الاستهلاكية فكأنما سلم نفسه للتبعية والفشل.
لقد آن الأوان للبعد عن ثقافة الاستهلاك والتقليد بالتبعية والتوجه نحو التثقيف بثقافة الإنتاج.. آن الأوان برفض التباهي بالعقلية الاستهلاكية المقيتة التي ليست سوى واحدة من الحراب التي رشقتها العولمة في قلب المجتمعات وهي تعلم أنها الحربة التي ستصيب في مقتل.