د. محمد البشر
في خضم الأحداث القائمة الآن، وما تحمله القنوات من مشاهد مروعة، وقتل ودمار، لم يعد بإمكان المرء أن يكتب عن السحاب، والخلب، والجون، والمطر، والغيث، والوابل، والرهام، والواكف، وغيرها من الأسماء الرائعة والمؤنسة، لم يعد المرء يستطيع الكتابة عن الربيع، والزهور، والورود، واللوتس، ولم يعد يكتب عن الأنهار، والينابيع، والجداول، والسواقي، لم يعد بالقدرة الكتابة عن كثافة الأشجار، وتشابك الأغصان، وغزارة الثمار، لم يعد هناك مجال للاستمتاع بالهضاب والجبال، والأودية، والروافد، والسهول، والقيعان، والكثبان، ولم يعد هناك شيء من جمال الطبيعة يمكن أن يدعوك للكتابة في ظل مآسي عالمنا العربي الذي نكاد أن نقول إنه ينتحر بإرادته، لأنه لم يكن لديه صبر كاف، وعلم واف، وعدل راس.
لا أحد يمكنه الكتابة عن ابن زيدون شاعر الطبيعة والغزل، قبل السياسة والألم، ولا المعتمد بن عباد حاكم أشبيلية وشاعرها، ولا عن أبو بكر بن عمار صديق المعتمد منذ الصبا، وصديقه وربيبه في شبابه، ووزيره فيما بعد، ومن ثم عدوه الذي قتله المعتمد بيده في قصره، لم يعد بالإمكان الكتابة عن ابن خفاجة الشاعر الأندلسي المتهتك في شعره والحكيم أيضاً، حيث يقول:
يقاس المرء بالمرء
إذا ما المرء ماشاه
وفي الشيء من الشيء
علامات و أشباه
وكذلك الرصافي، وابن الزقاق الذي يقول في بلده بلنسية:
كأن بلنسية كاعب
وملبسها سندس أخضر
إذا جئتها سترت نفسها
بأكمامها فهي لا تظهر
أيضاً حفصة بنت الحاج الركوتية، وقصصها المشهورة مع أبي جعفر بن سعيد العنسي، وكذلك ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب الوزيرين الرائعين، ومداعباتهما النثرية والشعرية، وبن طلحة، وبن الحاج البلغيتي، وأبو البرقات وغيرهم الكثير.
لقد حال دون الحديث عن ذلك، واقع الحال في الحديث عن الأعراق والطوائف، والمذاهب، والأفكار الغريبة العجيبة، التي تؤمن بأن القتل والتفجير للمسلمين الذين يصلون في المساجد، وغير المسلمين الذين يعيشون بسلام عبر آلاف السنين، يرونه واجباً، وآخرون يريدون أن يفرضوا طائفتهم بالقوة عن سائر الطوائف، متخذين القتل والدمار سبيلاً لتحقيق ذلك.
في ظل هذا الوضع قرأت مقالة صغيرة حول الموريسكيين في المغرب، من مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، تحدث فيها الأستاذ بن شريفة عن إحدى الطوائف في عهد السعديين، وتسمى الطائفة الأندلسية، وقد قام بها رجل أندلسي الأصل، نازلاً بمراكش مع رجل من الأندلسيين هناك، وكان منهم عدد غير قليل في الجيش السعدي، لكفاءتهم وقدرتهم الإدارية والقتالية، والواقع أنه لا يعرف عن مؤسس الطائفة وهو الفقيه محمد الأندلسي إلا الشيء اليسير، وكل ما عرفه عنه، هو ما نقله أعداؤه ومناوؤوه، ولهذا فقد يكون هناك تشويه لما كان يرمي إليه، ويدعو له، فلم يصلنا من كتبه ما يمكن التعويل عليه للحصول على رؤية واضحة حول فكره الغريب، في بيئة كانت متحدة تحت المذهب المالكي، المتعرق منذ الفتح الإسلامي الأول، وظهور المذاهب، وظهور الدولة الأموية في الأندلس.
ومن غرائبه ادعاؤه أنه دخل على شيخه أبي الحسن علي بن أبي القاسم، وهو في عريشة له، يقول: فوجدت عنده جماعة من الجن المؤمن يأخذون عنه العلم، فقال: هل كوشف لك عن هؤلاء؟ فقلت: نعم، قال: إنهم يطلبون مثل ما تطلبه، ثم قال الشيخ الأندلسي: لم يكن بالمغرب ولا بغيره، مثل الشيخ ابي الحسن في وقته، وقال: «وكان له من الأتباع أزيد من سبعين ألفاً من الجن. ولما توفي تفرقوا في أقطار الأرض يطلبون مثله فما وجدوه، قال: وكنت قد صحبت أربعة نفرٍ منهم، قال: ولقد سألت واحداً منهم وهو أفقههم، على أنفع عقار في الطب عندهم من النبات بحيث يكون جامعاً للمنافع، ونافعاً من جميع الأذى، قال لي: ليس في النبات أنفع من الكُبّار، فإنه اجتمع فيه ما افترق في غيره، ولو علم الناس ما فيه ما احتاجوا غيره».
هكذا كان شيخ الطائفة الأندلسية، ويبدو أنه استمر على أكل الكُبّار حتى أصابه المرض منه، فمات، ولم يمنع عنه الأذى، وذهبت به وصية الجني، وله آراء فقهية خليط بين الحزمية الظاهرية، والصوفية، مع التناقض فيما بينهما، ولسنا بصدد آرائه، وإذ جاز القول قلنا خرافاته، ومع هذا كان له أتباع كثير، والسبب في الحديث عنه، أننا ونحن نسمع في عصرنا الحاضر الكثير من الأفكار الغريبة العجيبة، مثل داعش أو غيرها في اتجاهات شتى، كلها تدعي الإسلام، والإسلام منها براء، ومع هذا فقد استخفت بعقول البعض، وجعلتهم يضحون بعقولهم ودمائهم في سبيل الضلال والخرافات، كما كان أتباع محمد الأندلسي، ثبتنا الله وإياكم على القول الثابت، وأرانا الحق حقاً ورزقنا اتباعه.