علي الصراف
بغبائها في التعامل مع قضايا البلاد، لم تقدم المليشيات الطائفية التي تولت السلطة في العراق، إلا دليلا على غباء المشروع الطائفي الإيراني نفسه.
لقد فعل أصحاب هذا المشروع ما يكفي لكي يصبح من المستحيل إصلاح ما خربوه، وهم فعلوا ما يكفي لكي يصبح من المستحيل تقديم تفسير عقلاني له أيضا.
ولتعرف حجم الخراب، قارن ما فعلوا بما كان يجب أن يكون، واسأل:
ماذا لو كانوا قد نجحوا في إقامة نظام يشكل بديلا حقيقيا لكل ما كانت تعنيه الدكتاتورية في العراق؟
ماذا لوكانوا قد نجحوا في إقامة دولة على أسس العدالة والمساواة بين المواطنين؟
ماذا لو بنوا سدا منيعا أمام تفشي الفساد وحاربوه، بدلا من أن ينخرطوا فيه، من أوسع الأبواب؟
ماذا لو عاملوا التعددية المذهبية والدينية والقومية العراقية، بوصفها نعمة من نعم التنوع وجعلوا العلاقة بين أبناء المجموعات السكانية قائمة على معيار الوطنية المشتركة؟
ماذا لو أنهم كانوا وطنيين، يميلون الى بناء اقتصاد بلدهم بما يملك من ثروات جمة ليحولوها الى ثروة للجميع، بدلا من أن ينهبوها؟
ماذا لو عاملوا خصومهم بقيم التسامح والاعتدال والعفو عند المقدرة بدلا من القهر والقسوة والعنف؟
ماذا لو استعانوا بالخبرات والكفاءات الوطنية لبناء دولة قادرة على خدمة شعبها، بدلا من تصفيتهم الواحد تلو الآخر؟
ماذا لو بنوا جيشا وطنيا محترفا، وجهاز أمن وطني، مستقل ومترفع عن كل وجه من وجوه السياسة والمشاريع الأيديولوجية؟
ماذا لو حرّموا الاعتقال التعسفي وأعمال التعذيب بدلا من أن يمارسوه على نطاق أوسع وأبشع مما فعلته كل الدكتاتوريات السابقة؟
ماذا لو بنوا نموذجا للعدالة الاجتماعية بين فئات المجتمع المختلفة؟
ماذا لو ركزوا الإمكانات والجهود على إعادة بناء وتطوير أنظمة الخدمات وأنفقوا على رعاية الفقراء والمحرومين وأنصفوا الأطفال والأيتام وعدلوا تجاه حقوق المرأة؟
لو أنهم فعلوا ذلك لكانوا، ولكان وليهم الفقيه، قد كسبوا دولة، بل كسبوا أكثر منها، بنموذج يملك الإمكانات ليكون قوة لنفسه وللخير في غيره أيضا.
إلا أنهم، ووليهم السفيه، فعلوا العكس تماما.
وحسنا فعلوا. فالإناء ينضح ما فيه. ولقد أتاحوا لنا، مرة أخرى في التاريخ، لكي نعرف أنهم قوة فساد وتخريب لسبب يتعلق بطبيعتهم وطبيعة مشروعهم الطائفي بالذات.
لقد أثبوا أنهم أغبياء، ومشروعهم غبي. ولم يكن ذلك عن خطأ أو عبث، بل كان تعبيرا عن شيء لا يمكن لأحد أن يصلحه أو يغيره فيهم، لأنه جزء من هويتهم وتصورهم للحياة.
-2-
شيء ما في التاريخ يجعل القادة الإيرانيين وأتباعهم منساقين، بالطبيعة، الى الاستراتيجيات نفسها التي اتبعها أسلافهم. ومثل كل انسياق آخر فإنه غالبا ما يكون انسياقا أعمى لا يلاحظ الفوارق بين البيئات الاجتماعية المختلفة، كما انه لا يلاحظ متغيرات الزمن.
لقد فرض إسماعيل شاه الصفوي مذهبه الاثني عشري عن طريق ارتكاب المجازر ضد كل من رفض الرضوخ له.
مئات الآلاف من أبناء الأقليات الإيرانية المختلفة ذبحوا ذبح الخراف، وهدمت منازلهم ونهبت ممتلكاتهم، لا لشيء إلا لأنهم تمسكوا بمعتقدهم الديني، أو رفضوا أن يسبوا الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الخليفة الرابع، أو امتنعوا عن إضافة شهادة أخرى الى الآذان تقول: «أشهد أن عليا ولي الله»، و»حي على خير العمل». وهي إضافات لم يكن يعرفها المسلمون من قبل.
وبلغت الفظائع التي ارتكبتها جيوش إسماعيل شاه حدا تجاوز كل معقول في وحشيتها، إلا أنها مكنته من أن يوحد إمبراطوريته في معظم أرجاء إيران الحالية ويجعلها على مذهبه، إنما على القهر والقسوة والعنف. ولا شيء آخر على الإطلاق. وهو تاريخ جلي في وقائعه، جلي في معناه، لكل من يريد أن يراه.
أما اليوم، فانظر كيف يتصرف أصحاب المشروع الطائفي الإيراني في العراق وفي كل مكان آخر، وسترى على رأس كل عمامة من عمائمهم إسماعيل شاه صفوي آخر.
انظر، وسترى أنهم ينساقون وراء سياسات القتل والتنكيل من دون ان يلاحظوا انهم يتصرفون كغزاة في مجتمعات كان يفترض أن يكونوا جزءا من نسيجها التعددي.
انظر وسترى، أنهم لم يلاحظوا أن الزمن غير الزمن، وأن أعمال التنكيل الجماعي لم تعد سبيلا لإقامة إمبراطوريات، ولا فرض مذاهب، ولا إملاء مشاريع.