د.محمد الشويعر
إن الإعلام شيء ضروري في حياة الإنسان من الأزل، لأنّ الإنسان الذي أعطاه الله العقل، وميزه بالإدراك يتأثر ويؤثر فيمن حوله. قُرباً وبُعداً بحسب القدرة الإعلامية، ونفاذها نحو الآخرين،
والكلمة مسموعة أو مقروءة هي وسيلة الإعلام والمحركة للشعور، وقد كانت الوسيلة المستخدمة، تختلف من وقت لآخر في توصيل الكلمة، وتعميق الفكرة التي يدعو إليها الشخص. وتؤمن بها الأمة، وما تعطيه من نتائج إيجاباً أو سلباً.
ولو أردنا ربط الماضي بالحاضر، فإن هذه الوسيلة قد مرّتْ عبر أطوار التاريخ بمراحل متعددة تتلاءم مع البيئة التي قُصِدَتْ بالتَّحريك، وتؤثر في المجتمع الذي تُلْقى فيه هذه الفكرة، والمنهج الذي يُسْلك لتوصيل الكلمة.
ومع ملاءمة البيئة والمجتمع فإنّ الفرد الذي يتلقَّى الكلمة لم يكن بمعزل عن اتجاه وغاية تلك الفكرة.. لأنه المقصود بتعيين جذورها، والهدف الذي تحركت الكلمة من أجله، وفي مختلف العصور التي رصدَ التاريخ بعضاً عنها، يلمس المتتبع نماذج من الطرق التي تجلب الانتباه وتسترعي التفتح الإنساني للمعرفة، وتدعوه للالتئام مع أجزاء مجتمعه ومع من يهمهم الأمر.. كجزء من الوحدة التي ينشدها، ونموذج للتآلف الذي تحتاجه النفوس عند الملمات.
فعند اليونان والرومان مثلاً: كانت تقام حلبات للمصارعة بين الإنسان والوحش، كجزء من العقاب الذي يفرضه القياصرة على من يناوئهم وفرض نوع من الرهبة الإعلامية التي تخيف الخصوم، وهي ذاتها الحلبات والمدرجات التي تلقى فيها التعليمات والمناظرات، والخطب والحوار الفكري، والإعلام عن شيء جديد في حياتهم.
وعند العرب في الجاهلية كانت الأسواق تؤدي الدور الإعلامي، في شؤون حياتهم الاجتماعية فيُعبّرون عن ذلك خطابة وشعراً، وإشارة بالإعلان، ورفع الصوت بالمحامد والمفاخر، في أسلوب يجسِّد رغبتهم في التآخي والتناصر. والوقوف ضد الخصوم، في أسلوب عصبي يُراد منه النصر فقط والتغلب على الآخرين مهما بذل في هذا الطريق من إعلام ومبالغة للتأثير.
وعند الأمم البدائية تختلف الوسيلة في توصيل الهدف: فبعضها يعلن حربه، أو يفصح عن ما يعتمل في نفسه، ويهم مجتمعه بإشعال النار وتجمع الناس حولها، ونوع بقرع الطبول، والتفاف الناس في حلقات الرقص، وفئات بإشارات أو علامات على رؤوس الجبال والمشارف عليه.
وفي أغلب هذه الوسائل كان للكذب والمبالغة، دور كبير في التحديث عن الذات والمكاسب المحدودة.
والتحدث عن الحقيقة بالوسيلة الكلامية: من شعر ونثر في التوجيه إلى الهدف، والاتجاه إلى الغاية، وإن كان قد نظر إلى الشعر نظرة تختلف عما عهده العرب في شؤونهم واتجاه فكرهم، لأن أكثر ارتكازه على عنصري الكذب والمبالغة اللذين مقتهما الإسلام، وجاء لمحاربتهما، لأنهما يقلبان الحقيقة.
فإن النثر أعمق مؤثر إعلامي يُوجه النفوس ويدفعها إلى الهدف والأسس الذي قصده الإسلام، وحقق رسالته إلى الأمم لاهتمامه برعاية الفرد والجماعة، وتكوين المجتمع الصالح.
ذلك أن تعاليم هذا الدين وجذوره العميقة تحرص على بذر الغِراس الطيبة، وتعهّد تلك النبتة منذ استوائها على سُوقها بالرعاية والعناية كما تحرص على إحاطتها بالاهتمام والعناية، إلا مجموعة من الأفراد الذين تنعكس أعمالهم وتصرفاتهم على ما يحيط بهم ويؤثر فيهم بما يُوجه إليهم.. فكان هذا الجوهر سلعة غالية.. ومادة نفيسة كرّمها الله بالعقل، لتستفيد مما يحيط بها: «ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب» (أثر قدسي قال بذلك ابن القيم).
ومن إدراك الإسلام لقيمة الإنسان وتكريمه له، فإنه قد سلك الطرق الكفيلة بجذبه إلى الأعمال الحسنة، حيث فضَّله الله على سائر المخلوقات.. وقد اتجه إليه في مخاطبة إعلامية، تلامس أوتار القلب وتتفاعل مع الأحاسيس والوجدان في مواقف كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [سورة الانفطار آية 6-8].
والتحدث عن الحقيقة بالوسيلة الكلامية: من شعر ونثر في التوجيه إلى الهدف، والاتجاه إلى الغاية، وإن كان قد نظر إلى الشعر نظرة تختلف عما عهده العرب في شؤونهم واتجاه فكرهم، لأن أكثر ارتكازه على عنصري الكذب والمبالغة اللذين مقتهما الإسلام، وجاء لمحاربتهما، لأنهما يقلبان الحقيقة.
فكانت التعاليم الموجهة في مصدري التشريع: القرآن الكريم والسنة المطهرة، وسيلة إعلامية تدعو إلى التآلف ومحبة الآخرين، والدعوة إلى الخير والاهتمام بأفراد المجتمع، وبذل المعروف من النفس والمال: بالصدقات والزكوات والإحسان والانقياد للشرائع، والوقوف عند الحدود، والدعوة إلى التآلف والمحبة والمساعدة، ولين الجانب، وفوق هذا كله انقياد القلب بالوحدانية لله الذي يمثّل قمة الوحدة في الاتجاه.. وكانت الوسائل المختلفة هي الطرق التي توصل هذه المُثُل إلى النفوس، وتوجهها إلى الهدف فتختار الأماكن والظروف، التي تستجمع فيها الحواس ويلتئم فيها شتات النفس، وتتهيأ المؤثرات المعينة للانتباه والاستفادة.
فكان المسجد حيث اتجّاه النفس جسماً وإحساساً بطهارة حسية ومعنوية موطناً تلقى فيه الدعوة المؤثرة، والكلمة المحركة والإعلام المنشط.
وكانت مجالس العلم، وطلب المعرفة مصدراً تستلهم منه النفوس، كل ما يفيدها فتأخذ عن قادة الفكر وموجهي المعرفة ومن مجالسهم كل توضيح في سبيل المعيشة والحياة، وكل توجيه لما خفي من أسرار مصدري التشريع: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية 43].
(للحديث صلة).