ياسر حجازي
(و)
(الخلافة) مصطلح مرتبط بنشوئه عند التسمية المجازيّة (خليفة رسول الله)، وقد اعتبرَ منظّرو ما عُرف بالسياسة الشرعيّة -فيما بعد- أنّ المصطلحَ دينيٌّ، ولم يقفوا عند خطورة أخذ المسمّى المركّب على الأصل لا على المجاز، لأنّ الصديقَ ليس خليفة المقام النبويّ والرسوليّ، لا بالتعاقب في هذا المقام ولا بالمهام الوظيفيّة لهذين المقامين الدينيّين المختومين، إنّما خليفة المقام الأمري/الرئاسي في إدارة شؤون الناس وحماية حقوقهم..
.. وهذا الإيضاح لا بدّ منه في معرض حديثنا عن: (لا خلافة في محلّ النبوّة والرسالة إنّما الخلافة في محل الدنيا والرئاسة)؛ والخلافة وفقاً للتصوّر الفقهي مصطلحٌ فكريٌّ أُريد أن يكونَ دينيّاً بالاستناد إلى التأليف والتأويل وليس بالاستناد إلى الواقع التاريخيّ السابق على المفهوم الذي قدّمه الفقهاء: (سياسةُ الدنيا بالدين نيابة عن صاحب الشرع)، وهو المفهوم الذي لا يستند إلى واقع الخلافة التاريخيّ وطبيعتها النقديّة أو دلالتها اللغويّة أو دلالاتها التي قدّمها المتن القرآني، ودلالات عدّة في سياقات مفاهيم الخلف. ونحن في سبيل مناقشة مفهوم الخلافة بين السياسة والدين نناقش التصوّرين الذين قدّما مفهومين متعارضين لا يتطابقا مع الاستنادات التاريخيّة:
رأيٌ تقليديٌّ نشأ عند بداية التنظير السياسي العربي الإسلامي، فالماوردي يضبط مصطلح الإمامة: (خلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به/الأحكام السلطانية)، ويرى أنّ النبي أسّس دولة/وحدة سياسيّة/كياناً هو جزءٌ من رسالته الدينيّة، ويعرّفها ابن خلدون أنّها: «حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به./مقدّمة ابن خلدون»، والتعريفان يتّفقان مع التصوّر الذي تتّخذه حركات الإسلام - السياسي في صراعها على السلطة في أكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ، الذي يصوّر الدولة والإنسان في خدمة الدين ومن يمثّله، وهنا تحديداً خطورة التعريف: أنّ ممثّلي الدين تبعاً لهكذا تصوّر في مكانةٍ أعلى من الدولة والقانون ولا يسألون عن أعمالهم. ويهمّنا تفكيك تعريف الفقهاء التقليديّين إلى موضوعين: (أ) الوحدة السياسيّة: فالتعريف ينطلق من وجود وحدة سياسيّة دينيّة في العهد النبويّ، وعليها جرت الخلافة، وتستمرّ كمفهوم له الشرعيّة دون أيّ شكل ومضمون آخر في السياسة لا يتوافق مع هذه الوحدة وطبيعتها. إذ يعتبرونها جزءاً من الدين، ويجري عليها ما يجري على الدعوة، وأنّ الكيانَ كلّه وتقلّباته خاضعٌ إلى (الوحي) فهو بذلك جزءٌ من الكيان الدينيّ العام، (ب) طبيعة الخلافة: يعتبرونها ذات طبيعة دينيّة بوصفها خلافة لصاحب الشرع، وهنا كانت الإشكاليّة في إثباتات التسميّة، وما نتج عن صراعات مذهبيّة متقدّمة في موضوع تسمية الخليفة.
ونحن في إثبات وجود الوحدة نختلف معهم في طبيعتها، إذ يستحيل البرهنة عبر قراءة الوقائع الأولى، والتي تثبّت وجود وحدة سياسية مركزيّة (أمّة) بينما لا تمنحها هذه الطبيعة الدينيّة، بل هي طبيعة دنيويّة تخضع إلى قوانين الدنيا والأسباب؛ فذكر أمور الدولة في المتن القرآني مطلقة لولي الأمر في مراعاة الظرفيّة تحت خطوط إنسانيّة عريضة: (الحقوق والعدالة، وموازين مصالح الناس بين النفع والضرر) وترك تفاصيل هذه الخطوط إلى التطوّر المفاهيمي الإنساني.
ورأيٌّ حديثٌ: ظهر عند ما يسمّى (شغور الخلافة) بسقوط الدولة العثمانيّة، ويوجزُ أنّه نقدَ الرأيّ التقليديّ بشقّيه: (الوحدة السياسيّة وطبيعة الخلافة)، فهو ينفي وجود حكومة أو وحدة سياسيّة في العهد النبوي، وبالتالي لا يرى طبيعة الخلافة من بعده أنّها دينيّة، فلا خلافة في النبوّة والرسالة، وأنّ الخلافة هي سياسة الدنيا بالدنيا، وكان رائد هذا الاتّجاه الأزهري: علي عبدالرازق، لكنّه علّل نشوء الخلافة الدنيويّة (نتيجة) على افتراض (سببي) ينزع وجود الوحدة في العهد النبويّ، وهو بنفيه الدولة عن الفترة النبويّة يحيل وقائع الفترة الإدارية والرعويّة والقضائيّة إلى الاستثناء، وهذه علّة رأيه في ابتعاده عن العلميّة السببيّة والتاريخيّة، ويرى أنّ الدولة/الوحدة السياسيّة نشأت عند وفاة النبيّ العربي عليه السلام في اجتماع السقيفة، وما نتج عنها من تولّي الخليفة أبو بكر الصديق شؤون المسلمين، باعتباره خلف النبيّ العربي في شؤون الرعيّة بصفة دنيويّة لا بصفة دينيّة.
ونحن إذا ما تأمّلنا الرأيين لوجدنا صواباً وخطأً فيهما، فهذا صوابٌ أنّ الدولةَ نشأتْ في العهد النبويّ، فلا يمكن أن نذهب فيما ذهب إليه عبدالرازق في نفي وجود الكيان السياسي، فماذا تسمّى الأعمال التي كان النبيّ العربي عليه السلام يقوم بها بوصفه زعيم كيان: شؤون ا لناس في دنياهم، التي كان عليماً بجوانب كثيرة منها (بالخبرة أو بالمشورة) على عكس ما يذهب إليه بعض الكتّاب في نفي علم الدنيا عن النبي، اعتماداً على حديث ضعيف يخالف الوقائع أو في إخراجه من حقل اختصاصه إلى حقل عام، وهو حديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم) والذي ذُكر في حكاية تتعلّق بالنخل وزراعته، وهو اختصاص لا يعني عدم اطلاع النبي عليه السلام على تفاصيله أنّه غير مطّلع على كلّ أمور الدنيا، ويصبح تعميماً يُفضي إلى تخلّيه عن الدنيا، فالوقائع التاريخيّة تؤكّد من وجوه عدّة أنّ النبي العربي عليه السلام ما كان يفصل نفسه عن أصحابه ومجتمعه وأهله، وأصابه على رأسهم أشدّ ما أصابهم، وراح في سبيل دعوته الدينيّة ورؤيته الدنيويّة لأجل الوصول إلى وحدة سياسيّة تحمي الناس في معتقداتهم، على رأس المواجهين والذين دفعوا ثمن ذلك، إن كان على صعيد حصار شعب بني طالب، الهجرة عن الوطن، فقدان الولد والأهل والأصحاب، وكلّ هذا لا يجعلنا نقرّ (وإن كان الحديث قويّاً، وهو مضعّف) أنّ هذا القول المنسوب يوافق الصحّة والواقع، أو يصلح لنفي الكيان السياسي الدنيوي.
ونحن نتّفق مع رأيه في طبيعة الخلافة أنّها دنيويّة وليست دينيّة، ونختلف معه في نفيه لوجود الدولة في العهد النبويّ، لأنّ هذا النفي يخلع عن نتيجته السبب المادي في إثباتها؛ فإذا لم يكن ثمّة وحدة سياسيّة فعلى ماذا وقعت الخلافة؟ وفيما كان قتال الخارجين عن المركزيّة في حروب ما يسمّى بالردّة؟ فأصلٌ في الخلافة التعاقب، فهل كان تعاقب على النبوّة أم على أمر الكيان؟
لا خلافة في النبوّة، حسناً، هذا رأينا، وحجّتنا في الفصل بين الديني والسياسي، فكيف تكون خلافة على دولة إن لم تكن الدولة قد وُجدتْ.
الدولةُ وُجدت وبدأت بالتكوين عند بداية الهجرة، (ونحن على الاقتضاء يمكن أن نخمّن لماذا اعتبرت الهجرة بداية التاريخ ولم يعتبر فتح مكّة)، فالفرق بينهما أنّ الهجرة هو تاريخ تأسيس الدولة الدنيويّة، بينما فتح مكّة هو تاريخ انتصار الدعوة الدينيّة، وهنا نجد أنّ الدولة المدنيّة انتصرت للدعوة الدينيّة، هكذا انتصرت الدعوة على يد الدولة، حينما استطاع هؤلاء المهاجرون والأنصار وحلفاؤهم والذين آمنوا بدعوة النبيّ الدينيّة، قاموا بتأسيس كيان لأجل حماية عقائدهم وتحرير وطنهم من أولئك الآباء الذين يمنعون الحريّة الدينيّة ويتاجرون في الدين لغايات دنيويّة.
(ح)
نذهب بالقول إلى تثبيت وجود الدولة بمضامينها المتوافقة مع مرحلتها الزمنيّة التاريخيّة، فليس من الصواب أن نرى التاريخ وفق ما ننتمي نحن، بل علينا أن نراه وفقاً لما ينتمي هو، وتبعاً لسياقاته وليس إلى سياقات أخرى متقدّمة عليه زمنياً ومكانياً.
رأينا:
الدولة موجودة إلى جوار الدين، وهو ما يُعلّل مقولة تاريخ الإسلام دين ودولة، وليس مقولة: (الإسلام دين ودولة)، فالدين عقيدة فرديّة وحريّة إنسانيّة وهو إيمان الأفراد، وعلى هذه الحريّة الفردية تحديداً وقع التكليف والمسؤولية، والأفراد الذين هم نواة الكيان والجماعة ولا تكون جماعة بدونهم، كانوا على هذا الدين، لكنّ شؤونهم العامّة وأمورهم السياسيّة ضمن الوحدة السياسيّة مضت باتّجاه تشريعات وسلوك وطرق دنيويّة؛ فالدولة وأحداثها وتقلّباتها خاضعة لمفاهيم الدنيا وظروفها ومتطلّباتها والتوفيق والنصر والهزيمة، وهي التي حمت رعايا الأديان الأخرى من يهود و(نصارى) وصابئة، وهناك إلى مجاورة الدولة/الوحدة السياسيّة كان الدين الذي بلّغه النبي العربي وانتصر لأتباعه بإنشاء كيان يحمي حقوقهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم دون أذيّة، وليس لأحد حقّ مصادرته أو امتلاكه.
خلافة الصحابي أبي بكر الصدّيق ليست خلافة دينيّة، فلا خلافة في النبوّة باتّفاق الأفرقاء جميعاً، بيد أنّ مفاهيمهم تجرح هذا المفهوم تبعاً لنتائجه ودلالاته، إنّما وقعت الخلافة على الدنيا، خلافة الكيان السياسي، خلافة زعامة وأمارة الدولة/الوحدة السياسيّة/الأمّة، ومحلّ الدنيا كانت الدولة وتكون دائماً.
أمّا تعريف الخلافة التقليدي: (سياسة الدنيا بالدين) فما عُرف له سندٌ في المتن، كما أنّ وقائع الرعيل الأوّل تعارض هذا المفهوم، فنحن أمام صلح الحديبية نرى صلحاً من الدنيا وتمّت سياسته بالدنيا، (فلا يصالح الإيمانُ الكفرَ وفق سياق المتن الديني)، وها نحن أمام قراءة وقائع حربيّة عدّة، وتساؤل بعض الصحابة: (أهذا وحي يوحى أم هي الحرب خدعة ومكيدة)، والدين منزّه عن الخدع والمكائد، والدنيا وإدارتها وحمايتها تتطلّب تعدّد الوسائل، ومن بينها الواضحة المستقيمة والغامضة الخادعة، ويمكن في اللغة المعاصرة أن نفكّك التساؤل، ونعيده: هل نحن أمام خطّة حربيّة موضوعة من (الوحي)، وهي جزءٌ من الدين، والرسول يبلّغها، أم الخطّة جزء من الدنيا والدولة ووضعها أمير وراعي هذا الكيان العربي النبي عليه السلام بوصفه زعيم وحدة سياسيّة؟
هكذا يكشف التساؤل مسألتين، هما من ا لضرورة أنّهما في صلب موضوعنا عن الخلافة ومفهومها، وحريّ بنا الوقوف عليهما:
الأولى: مسألة تعدّد الوظائف في شخص النبي محمّد عليه السلام: (النبوّة، الرسالة، الزعامة..)
الثانية: مسألة الفصل بين الدين/الوحي، وبين الدنيا/الإدارة، بين الدين الحقّ، وبين الدنيا الخاضعة للصواب والخطأ، بين الدين الحق وبين الدنيا الخاضعة للنصر والنجاح والهزيمة والإخفاق، بين الثابت والمتحوّل، بين غير المسبّب والمسبب؛
وهما مسألتان واضحتان وتؤكّدان وجود وحدة سياسيّة كان على رأس إدارتها النبي عليه السلام بوصفه راعي/ولي أمر وأعماله في هذا السياق تُعدّ ضمن السياق الدنيويّ، وهو مقام مختلف، إلى جانب مقامه النبويّ والرسوليّ. وهما المسألتان اللتان تؤكّدان كغيرهما من الوقائع أنّ تاريخ الإسلام كما أشرنا تاريخاً يضمّ ديناً ودولةً متجاورتين ومنفصلتين، بحيث كانت الدولة لحماية المتديّين وإبلاغ الرسالة الدينيّة، لأنّ الدولة في الحرب والمال والتداول والتقلّب والتغيّر، والدين في الثبات والخلاص والخشوع، وحريّة الإنسان الفرد في معتقده: بينه وبين خالقه.