د. محمد عبدالله العوين
في ظهيرة يوم من أيام شهر ربيع الأول من عام 1394هـ استمتعت لأول مرة إلى صوت في الإذاعة ليس كالأصوات، وأنا حينها لا أعرف الفرق الدقيق المهني بين طبقات الصوت؛ بحكم صغر سني في تلك المرحلة، كان يقدم برنامج «دعوة الحق» بعد نشرة أخبار الظهيرة، تعليق سياسي يكتبه صحافيون محترفون يتابعون ويحللون الموقف السياسي للملك فيصل - رحمه الله - الذي كان يتصدى في تلك المرحلة بكل الشجاعة والإقدام للمد الشيوعي المتمدد في العالم العربي والإسلامي ويقف أيضا بقوة المؤمن الواثق أمام تغول الصهاينة في أرض فلسطين، ويحمل إلى العالم الإسلامي دعوة محبة وأمل للتضامن على موقف واحد يصد عن العرب والمسلمين كل تلك الشرور.
كانت دعوة «التضامن الإسلامي» هي عنوان تلك المرحلة، وقد رفع شعارها الملك فيصل بعد هزيمة 1967م التي سميت نكسة، ورأى أنها البديل للقومية العربية التي كان يرفع لواءها جمال عبد الناصر.
لقد تميز بدر كريم في أداء دوره الإعلامي بصورة مثيرة للإعجاب ؛ بحيث غدا وكأنه الموكل وحده بشرح خطابات الفيصل ورؤاه والمتابع المرافق له في جولاته ورحلاته إلى أقطار العالم الإسلامي شرقا وغربا، من الباكستان وإيران وبنجلاديش إلى نيجيريا ومالي وتشاد والنيجر وصوت بدر كريم يرسم المشهد الجماهيري الهادر الهاتف بالتأييد والتعاضد ويحيط بالضيف الكبير الملك فيصل إحاطة السوار بالمعصم؛ كما يصف!
أعلى هذا الصوت الرخيم العميق الممتلئ جرسا وثقة وإحساسا من شأن الإعلامي المذيع، ووضعه في قمة المسؤولية المعبرة عن رؤية القائد والوطن، في وقت لم يكن في الساحة من وسائل التأثير السريعة غير المذياع ؛ فلا الصحيفة تستطيع ملاحقة الحدث وتنقله في التو واللحظة، ولا التلفزيون بقناته الوحيدة غير الملونة يملك من تقنية النقل على الهواء ما ينافس به الإذاعة؛ فما أيسر نقل الصورة الصوتية وحقنها على الهواء أو مسجلة من أقصى مكان في العالم إلى استديو البث من خلال الدائرة الهاتفية بتوصيلات يسيرة جدا يتقنها الفني المختص.
وصل الإذاعي بدر كريم إلى تحقيق مستوى عال من التأثير في الجماهير من خلال موهبته الصوتية العالية، واجتهاده للوصول إلى قمة الإتقان، ودأبه على إنجاز أعماله بدقة متناهية، وتلمسه احتياج الناس إلى التعبير عن قضاياهم ؛ كما تمثل ذلك - مثلا - في اختيار برنامجيه «في الطريق» و»تحية وسلام» ففي الأول يلتقي بالناس مصادفة ويتناول معهم ما يشغلهم من الهموم، وفي الثاني ينقل مشاعر المغتربين المبتعثين في أوروبا وأمريكا وغيرهما إلى ذويهم، وكان يقدم ضحى كل يوم جمعة إن لم تخني الذاكرة.
ولم يبتعد أيضا عن النخب المثقفة من العلماء والأدباء وغيرهم من المسئولين الإداريين؛ كالوزراء والسفراء ومن ماثلهم؛ فكان يلتقي بهم في برنامج «ضيف الليلة» الرمضاني الذي يتوزع إعداده وتقديمه على عدد من الإذاعيين.
وربما كان من أسباب تميز بدر كريم الإصرار العجيب على تحقيق الهدف؛ فشاب صغير السن ربما لا يتجاوز سنه السابعة عشرة لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية ينتقل من جوازات جدة إلى إذاعتها بعد أن تقدم للاختبار وقبل، ثم يصر على أن يصل إلى قمة النجاح في طريقه الجديد وهو لا يحمل من المؤهلات العلمية العالية ما يدعمه للوصول إلى الغاية التي يطمح إليها ؛ لا شك أن ذلك الشاب مغامر وعنيد وذو شخصية مختلفة!
وبإصراره على أن يكون مختلفا واصل دراسته مع عمله الإذاعي؛ فأنهى انتسابا المتوسطة ثم الثانوية ثم الجامعة ثم الماجستير، ثم أصر على الدكتوراه حتى نالها وقد تجاوز عمره الخامسة والستين!
هو واحد من جيل مختلف من الإذاعيين؛ جيل يتعب على نفسه، يتعلم، يسأل، يجتهد، يتعب، يغضب من الوقوع في اللحن أو الهفوات اللغوية.
هو واحد من كوكبة نادرة لا تتكرر كثيرا؛ جيل بحجم الوطن وأصبح اليوم بحجم قرية صغيرة من الوطن!