سلمان بن محمد العُمري
في الوفاء سعادة للنفس البشرية، والوفي هو الإنسان الراقي من البشر، والوصول لدرجة الوفاء هو المكسب الحقيقي لبني الإنسان.
إن الوفاء ليس كلمة تقال، ولا سلوكاً يمكن القيام به بلا مقدمات وبلا استعداد وتهيؤ ذاتي ومعنوي، ولا فعلاً يتصف به الإنسان، إنما الوفاء هو طبيعة للنفس الزكية، والروح العطرة الشذية، والقلوب الخيرة الندية، يأتي بصاحبه لأفعال هي المروءة بعينها، والإكرام بعينه، والكرم بحقيقته، ورد الجميل على أصوله، والاعتراف بالفضل بكل معانيه، فهي التي تأخذ بصاحبها نحو السؤدد، وليس صاحبها الذي يأخذها نحو التطبيق، وفي النهاية ينصهر الإنسان بوفائه فيصبح الوفاء سلوكه اليومي وفعله الدائم حتى بدون أن يفكر فيه، وهذه هي السعادة بأسمى معانيها، سعادة الوفي، وسعادة المحيطين به، وسعادة الأمة من بعدهم.
في هذا الزمان أضحى الوفاء عملة نادرة، على الرغم من أنه من أعظم الصفات الإنسانية، وهو من الأخلاق الكريمة والحميدة، ومن فقد فيه الوفاء قد انسلخ من إنسانيته.
والوفاء خلق عظيم لا يتصف به إلا عظيم، وقد صنفه بعضهم بأنه وليد الأمانة وعنوان الصدق ودليل الشجاعة والصبر وقوّة التحمل.
وفي زمننا الحالي انسلخ الوفاء، وكثر فيه الغدر والخيانة مع مقت الإسلام لهما وتحذيره من نقض العهد بأي صورة من الصور، ولأي غرض من الأغراض ووفق رؤى الحكماء أن الذي ينقض العهد ويتصف بتلك الصفة الذميمة إنسان أحمق لا مروءة له ولا شيمة!
وفي زمن اللاوفاء الذي نعيشه الآن تتكشف حقائق البشر وتنزاح الأقنعة عند حدوث المواقف، وتتضح معادن الرجال وتظهر على واقعها الحقيقي إن كانت التنشئة في بيئة صحية نظيفة أو بيئة عفنة مريضة!!
قد يعتقد بعضهم أن التحصيل العلمي أو الثقافي قد يكون لهما تأثيرهما على الوفاء والالتزام، وهذا قد يكون فيه شيء من الصحة، ولكن هيهات.. فهناك من تحصّل على أعلى الدرجات العلمية وترقّى إلى أعلى المناصب الدنيوية، ومع ذلك لم يؤثر عليه ذلك رقياً وسلوكاً حيث لم يلتزم بوفاء ولا عهد!!
وهناك من لبس ثياب الزّهد والتقية وهو يحمل في جوانبه اللاوفاء، والغدر، والخيانة، بمعنى (حية تحت تبن) كما يذكر في الأمثال الشعبية. وفي نفس الوقت يكون الوفاء سمة بارزة وخصلة حميدة لدى فئات من الناس ممن لم يحصلوا على درجات علمية أو مراتب عليا رفيعة، وهم بذلك يعبرون عن بيئتهم الطيبة المسكونة بالخير، والمحبة، والوفاء، والإخلاص، ورد الجميل والاعتراف بالفضل لأهله لمن كان لهم عون وسند بعد الله -سبحانه وتعالى-.
إن الإسلام -وهو دين الفطرة الذي أراده الله واقعاً معاشاً للبشر وحقيقة يومية يعايشونها في كل لحظة من لحظات حياتهم-، إنما أعطى كل صفة وخصلة نافعة ما تستحقه من تكريم وتقدير، ولهذا لا عجب إن كان الوفاء على رأس القائمة في التكريم والتسجيل بين الصفات التي أقرها الإسلام وشجعها ودعمها وارتقى بها، وذلك لأهميتها القصوى في بناء المجتمع الإسلامي وكيان الخير، وبنيان السعادة.
قال تعالى في كتابه الكريم: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، والوفاء مطلوب في كل الظروف، فما بالك به إزاء عهد أمام الله، فهنا العهد يستلزم الوفاء أكثر وأكثر، يقول تعالى في محكم التنزيل {وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فالوفاء بالعهد من أهم المبادئ التي يقوم عليها بنيان الشخصية المسلمة القوية المتينة الداعية للحق المبشرة بالعدل والتسامح والمحبة والإخاء، والوفي هو داعية حقاً لأن سلوكه عامل جذب للآخرين نحو عقيدة هي الفطرة بذاتها.
أما نقض العهد فلا طريق له إلا الضياع والخسارة والتشتت والشر والبعد عن الحق.
إن الوفاء علامة بارزة من علامات الإيمان -بإذن الله- وكذلك دلالة راسخة على قوة الشخصية وبعدها عن المصلحية والانتهازية والوصولية والنفعية والطمعية والحسدية، والإنسان الوفي هو محل ثقة بين الناس، يحبونه ويجلونه، ويقبلون على معاملته، ولا يرتابون بوعده وعهده، وهذا نصر عظيم لا يناله إلا الأوفياء، وعجب إن كان الوفاء لذلك عملة نادرة في هذا الزمان الذي جاء بحضارات مشوهة، وأفكار ضالة مضلة جعلت شريعة الغاب سيداً يحكم الجميع.
إن الوفاء مع الناس يأتي في كل الظروف وليس كمداهنة ونفاق وقت وجود الأشخاص في مناصبهم، وإنما الوفاء يبقى مع الطيبين الأخيار حتى ولو جار الزمان عليهم ووقعوا بالمحن والشدائد.
والنقطة المهمة التي لا يجوز التغافل عنها أو التغاضي بخصوصها، هي أن هناك عقوداً وعهوداً يرتبط بها كل منا في يومه وفي ظروفه وأحواله المختلفة، وهذه من آخر الضرورات أن يلزم بها، وهذا الأمر لا مهادنة فيه لما فيه من إضرار بمصالح البشر، يقول تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، وهذا أمر من الله تعالى للمؤمنين، ولا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمراً.
ونذكر هنا في أنه إذا كانت النفس البشرية مزيجاً من الأحاسيس والانفعالات والسلوكيات والتصرفات والطباع والأمزجة، التي منها ما يشتمل على الخير، ومنها ما يقع في إطار الشر والعياذ بالله، فإن من أجمل الصفات التي قد ترقى إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق، وتتطلع إليها الأفئدة بفطرتها التي جبلها الله تعالى عليها هي صفة الوفاء.
* * *
صدق الشاعر في قوله:
وجرّبنا وجرّب أوّلونا
فلا شيء أعزّ من الوفاء