د. عيد بن مسعود الجهني
يشهد عالمنا المعاصر تحولات سريعة الخطى في الميدان الاقتصادي والسياسي والعلاقات الدولية..إلخ، في ظل العولمة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول النامية خاصة بعد انهيار جدار برلين وتهاوي النظام الشيوعي وخلخلة الأنظمة السياسية التي كانت تدور في فلكه وبعض الدول العربية (بالطبع) منها.
هذه العولمة التي فرضها النظام الاقتصادي والسياسي العالمي هدفها تأسيس المجتمع الإنساني على نظرية تضمن للأقلية من سكان العالم حوالي (20 في المئة) الثراء وضمان العمل وتأمين حياة مترفة بعيدة كل البعد عن الفقر والعوز.
أما الغالبية المطلقة من سكان هذا الكوكب الأرضي الذي قارب (7) مليارات نسمة فإن معظمهم من الفقراء فنصيبهم الفتات، بل إن بعض منظّري العولمة يرون أن هذا الفتات يعتبر كثيراً على هذه الشريحة الأكبر من البشر والذين يتركّزون في إفريقيا وآسيا وبعض دول العالم.
وتحت جناح الرأسمالية ظهر الفساد الإداري والمالي من رشاوى وعمولات واحتكار، ولا يعني ذلك أن الفساد حكر على الدول الرأسمالية، بل إنه متغلغل في كل المجتمعات والدول، ومنها الدول العربية التي تعلّمت دروساً في الفساد على أيدي رجال شركات الغرب الكبرى التي تسيطر على معظم حركة التجارة العالمية.
لكن الفساد العولمي عندما يظهر في تلك الدول (المتقدّمة) في معظم الأحوال تطفأ ناره وتستأصل رؤوسه، وأمثلة كثيرة قرأنا عنها وشاهدناها عبر وسائل الإعلام، أطاحت برؤوس عدة، والسبب تطبيق أساليب صارمة وقانونية دقيقة مدعومة برقابة الإعلام والرأي العام.
ومثل حي على ما قلناه الزلزال الرهيب من الفساد الذي ضرب مؤخراً الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) وأطاح برؤوس عديدة من أعضاء هذه المنظمة الدولية، حيث بدأت شرارته من عاصمة أكبر دولة رأسمالية (قوية) عندما أعلنت المدعية العامة من واشنطن القبض على رؤوس بعض رؤوس الفساد في (الفيفا) في زيورخ، حيث المقر الرئيسي للاتحاد، وبالطبع إذا طالبت ماما أمريكا فإنها تجاب ولا تخاب.
من هنا تتابع سقوط بعض القطط السمان الأخرى فمنهم من اعترف بجريمته وسلَّم نفسه ومنهم من أعلن أنه يملك وثائق تدين الآخرين، وفي سويسرا، حيث مقر المنظمة فإن المدّعي العام في ذلك البلد (بالطبع) سار مع دعوة المدعية العامة الأمريكية ليعلن مطاردة بعض من تورَّطوا في الفساد والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة الناجزة.
الجدير بالتنويه أن رائحة الفساد كانت قد أزكمت الأنوف عندما تظاهر عدد غفير من السويسريين وغيرهم معترضين على ترشيح (بلاتر)، لكن الرجل ورجاله الأوفياء لم يلقوا بالاً لصيحات المتظاهرين، فتقدَّم للانتخابات ليفوز على منافسه الأمير علي بن الحسين، وما إن توسعت دائرة القبض على هامات أخرى من الفاسدين حتى (أرغم) بلاتر نفسه ليعلن عن استقالته ليترك المنصب شاغراً لجولة منافسات جديدة على رئاسة أكبر منصب يمثِّل أكبر لعبة رياضية تنال تشجيع الغالبية العظمى من المشجعين بالنسبة للرياضات الأخرى.
قد يتساءل البعض عن سبب هذا الفساد الذي ينتشر في عالم اليوم دولاً ومنظمات كالفيفا وغيرها، انتشار النار في الهشيم، ولا تكاد تخلو منه دولة أو مؤسسة أو منظمة أو شركة كبرى أو صغرى، وأرى أن السبب هو هذه المادية التي يعيشها العالم، فعالم اليوم مغرق في ماديته ويكاد يتجرّد من الروحانية والإنسانية السمحة فأصبح الشعار هو (المنفعة) (نفسي نفسي)، وعالم هذا حاله بالتأكيد أن بعض أفراده لا يعترفون بحدود في إشباع رغباتهم ولا يراعون محظوراً في تحقيق مآربهم وتصبح كلمة (التزام) كلمة (ممجوجة) وكلمة الضمير تثير (السخرية).
وأمام هذا الطوفان المادي المجنون تصبح القوانين والأنظمة واللوائح والقرارات والتعليمات قاصرة عن ملاحقة المفسدين وتصبح المؤسسات الدولية التي تنادي بالطهر والنزاهة والشفافية والمهتمين بمكافحة الفساد والرشاوى والمحسوبية مشروخة الصوت لا يستمع إليهم أحد، فصندوق النقد الدولي مثلاً الذي يدّعي أنه يدعم الجهود المبذولة لمكافحة الفساد خصوصاً في الدول الفقيرة التي تحصل على قروض من البنك ويسيطر إلى حد كبير على توجيه اقتصاداتها، يعترف بصعوبة تتبع حركة المفسدين، رغم أن البنك يقدِّم قروضاً لمشاريع محدَّدة ويمكنه التأكد من قواعد مكافحة الفساد في تلك المشاريع، لكن الحكومات الفاسدة التي تتلقى مساعدات البنك غالباً ما تعمل على بعثرة تلك الأموال لمصالحها رغم الشروط الصريحة التي يفرضها البنك، وهذا ما يستدعي من البنك الدولي متابعة سير القروض لمنع الفساد أو الحد منه لتحقق المشاريع أهدافها وأغراضها.
إننا لا نقول إن دول العالم العربي هي وحدها التي ينتشر فيها الفساد وتحتضن قططاً سماناً عديدة، فالفساد أصبح سلعة عالمية على مستوى الأفراد كما على مستوى الدول، والمنظمات كالفيفا وغيرها، بل على مستوى القيادات الإدارية والمالية، فلا توجد دولة تخلو تماماً من الفساد، في عصر العولمة، فالفساد متغلغل في الدول الغنية مثلما هو منتشر في الدول الفقيرة، ففي تلك الدول الغنية المسماة متقدِّمة يبدأ فساد الساسة حتى قبل الجلوس على كرسي الحكم، فالشركات الكبرى لا تتورَّع عن شراء ذمم السياسيين وذلك بالتبرع لتمويل الانتخابات وشراء الأصوات، وذلك لجني الثمار لاحقاً.
إذاً الفساد شر مستطير وخراب أكيد وضرره بليغ، فهو يؤدي حيث وجد إلى توقف الاقتصاد وتعطّل مسيرة التنمية المستدامة وانهيارها وضياع مصالح المواطنين والمجتمعات وانتشار الفقر والبطالة، بل يتعدى أذاه إلى الحكومات؛ فأحزاب لها تاريخ طويل في الحكم في دول ديمقراطية اعتراها الضعف والوهن بسبب تفشي الفساد داخلها فكانت بين خيارين إما أن تصلح هياكلها الداخلية وتعدل برامجها الانتخابية وتوجهاتها السياسية للفوز بالانتخابات أو يكتب لها الفناء.
اليوم فضائح الفساد تطول المنظمة التي تعتبر واحدة من أكثر المنظمات الدولية ثراءً، تدير رياضة كرة القدم على المستوى الدولي التي تحظى بشعبية عارمة تهزها الفضائح هزاً عنيفاً كالزلزال، فتهم الفساد وجهت للعديد من المسئولين فيها من بينهم اثنان من نواب جوزيف بلاتر الذي أصبح هو في مرمى التحقيقات، التي تبحث في جرائم رشاوى واحتيال وابتزاز، بل غسيل أموال وتمتد جرائم الفساد في المنظمة إلى حقوق البث التلفزيوني وغيرها.
وأمام هذا الطوفان من الفساد الذي دقَّ أبواب الـ (FIFA) الذي سببه أولاً وأخيراً الجنون المادي الذي طغى على الأنفس، يبرز لنا أن الفساد تخطى كل الحواجز والقوانين والأعراف والمثل الإنسانية من أجل تحقيق منفعة أو إشباع حاجة ليس لمحققها حق فيه.
ولذا شاهد العالم كله كما كان يشاهد مباريات كأس العالم رؤوس فاسدة من أعضاء الفيفا تسقط على أيدي رجال الشرطة السويسرية وهم قابعون في فندق خمسة نجوم في زيورخ لتسلّمهم للولايات المتحدة بتهم تتعلَّق بالفساد، للتحقيق معهم من قبل معنيين أمريكيين ومكتب التحقيقات الاتحادي، كما فتح ممثلو الادّعاء في سويسرا تحقيقات بشأن قضايا فساد في نفس الجرائم السابقة وألقت الشرطة السويسرية القبض على مسئولين كبار بالاتحاد الدولي لكرة القدم.
هذه الجرائم التي هزت كيان الفيفا فتحت الباب مشرعاً لانتخابات جديدة بعد استقالة بلاتر في الفترة ما بين ديسمبر 2015 ومارس 2016 ، حيث سيبقى بلاتر الذي يبلغ من العمر حوالي الثمانين في منصبه وأول المرشحين لهذا المنصب الدسم الأمير علي بن الحسين وبلاتيني من فرنسا ومارادونا من الأرجنتين واللائحة ما زالت مفتوحة.
لكن السؤال المطروح من هو الذي سيتصدى للفساد الذي استشرى متغلغلاً في جسد أكبر واهم منظمة رياضية تلاعب في أموالها التي جمعت من جيوب المفتونين في كرة القدم، الكبار في المنظمة، أداروا شبكة فساد على مدى العقدين الماضيين في سرية متناهية التعقيد ولم تفوح رائحته إلا قريباً، والسبب أن من أداروا حلقة الفساد في تلك المنظمة هم من أصحاب السطوة والنفوذ وزعوا الرشاوى بينهم قسمة ضيزا، ويبقى أن توزع عليهم العقوبة توزيعاً عادلاً جزاءً لفسادهم.
والله ولي التوفيق.