حمّاد السالمي
طلب الشهرة والبروز؛ غريزة في الناس منذ خَلْقهم الأول، وهي لو كانت في نفع وخير، فأهلاً بها، أما لو كانت على حساب آخرين، ونتج عنها ضرر بدين أو خلق أو مصالح دينية ودنيوية، فجاءت بتكفير أو تفسيق أو تصنيف مذهبي أو قبلي أو مناطقي.
فهذا هو الخط الأحمر الذي لا يجوز تجاوزه بحال، وضررها ولا شك كبير، وإثمها عظيم على طالبها قبل غيره. إن مشكلة كهذه لا تأتي من موهوبين متميزين، وإنما تأتي من زمرة نفعيين وصوليين، ممن يلاحقون سراب التألق في مشهد عام.
* إن الشخصيات المريضة بحب الظهور، تنزع إلى استمرار الرغبة الجامحة في لفت انتباه الغير لها، لدرجة يصاب المريض بحالة من الهوس، مع كِبر واستعلاء، وحب تسلط، وإعجاب بالنفس، وافتخار بالذات، وحب الجاه والشهرة، وحب المدح والرياء.
ويذهب المريض لأبعد من ذلك، بحيث يعمد إلى تتبع وتصيد السقطات والزلات لغيره من المنافسين أو الآخرين، بهدف التقليل من شأنهم، كما يشعر بالغيرة الشديدة، والتضايق عند ذكر منجزاتهم وإبداعاتهم.
فلا يرضى هذا الشخص الأناني لغيره بالبروز والتميز، حتى لا يخفت بريقه، ويأفل نجمة، وتتلاشى نظرات المعجبين من حوله.
* في تراثنا العربي كثير من القصص الدالة على حالات يختص بها أفراد عادة، ولا هدف لهم من ورائها إلا الدعاية لأنفسهم، والسعي للشهرة والبروز والظهور، حتى لو جاء هذا الظهور بما لا يليق عرفاً ولا يصح شرعاً، وكثير من هذه الحالات ينطلق من منابر الخطابة الجمعية، ومن بعض المتصدرين للدعوة، ومن صغار الوعاظ والكُتّاب الذين يأتون من خلف الصفوف، فيبحثون لهم عن مكان في المقدمة على طريقة: (خالف تُعرف)..! فقد ظهر في أزمنة بعيدة وقريبة من ادعى النبوة، ومن زعم رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم ومشافهته بالكلام، إلى غير ذلك مما تنضح به الكتب والمرويات.
* وهذا المرض النفسي الخطير؛ ليس حكراً على فئة دون فئة من الناس، وحالات التسلق والتعملق ولو بالباطل؛ قد يأتيها العالم والجاهل، وتصدر عن شاعر وأديب وكاتب ومؤلف وخلافهم.
ونتذكر أن طه حسين - رحمه الله - وهو طالب صغير في الأزهر؛ تصدى للأديب الشهير مصطفى المنفلوطي صاحب كتاب: (النظرات)، فراح ينقده نقداً جارحاً، وكتب في جريدة (العلم) يخاطب المنفلوطي قائلاً: (أيها الكاتب المجيد.. أسعد الله صباحك، وأحسن مفادك ومراحك.. وقوّم المزوّر من شأنك، والمعوج من لسانك، وألهمك الصواب في الإعراب والإحسان في البيان، فما أعلمك في كل ذلك إلا دعيّاً، بحثت عن معناك فلم أجد إلا غثاً، وعن لفظك فلم أجده إلا رثاً، وعن أسلوبك فلم ألفه إلا مبتذلاً، وعن مقرظيك فإذا هم بين ظالم ومظلوم، ولائم وملوم، فسألت الله أن يثأر منك العرب)..! وقد سأله صحافي بعد أربعين سنة من تلك الواقعة؛ عن سر حملته على المنفلوطي فأجابه وهو يبتسم: (كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب كبير معروف)..!
* وهذه قصة عجيبة يرويها ابنُ الجوزيّ- ت 597هـ - في كتابه: (المنتظم)، قال: بينما الحُجّاجُ يطُوفون بالكعبةِ ويغرفُون الماءَ من بئرِ زمزمٍ، إذ قامَ أعرابيٌّ فحسَرَ عن ثوبه، ثمّ بالَ في البئرِ والنّاسُ ينظُرون! فما كانَ منهم إلا أن انهَالُوا عليه بالضّربِ حتى كادَ أن يموت، فخلّصه حُرّاسُ الحَرَمِ منهم وجاؤوا به إلى أمير مكّة فقال له: قبّحَكَ الله، لِمَ فعلتَ هذا؟! فقال: حتى يعرفني النّاسُ فيقولوا: هذا الذي بال في بئر زمزم)..! *
إنها عقدة (خالف تُعرف)! فالمعقود بها يأتي بما يخالف المنطق والعقل قولاً أو فعلاً أو مظهراً، لكي يعرفه الناس، ويحقق لذاته الشهرة التي يريد، ولو من باب أعوج..!
* إنَّ هوى النفس يُوقع صاحبه في المطبّات، ويُسقط شخصيته بين الناس، فالذين يغويهم الشيطان ليسوا بقليلين، وقد حذر العلماء والفلاسفة من هذه الحالة المرضية.
قال الذهبي رحمه الله: (ينبغي للعالم أن يتكلم بنيته وحسن قصده، فإذا أعجبه كلامه فليصمت، فإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء).
وأوصى ابن عبّاس رضي الله عنهما رجلاً فقال: (لا تتكلّم بما لا يعنيك، فإنّ ذلك فضل، ولست آمن عليك من الوِزر، ودع الكلام في كثير ممّا يعنيك، حتّى تجد له موضعاً، فربّ متكلّمٍ في غير موضعه قد عُنِّتَ)، أي: (عاد باللّوم والعتاب).
* وللمؤرخ الفيلسوف ابن خلدون؛ مقولة شهيرة في هذا الشأن قال: (إن حب الشهرة يشل حركة المجتمع الإيجابية، ليحولها إلى شكليات ومظاهر ومسرحيات، يخادع بها بعضهم بعضاً، فالشهرة حين تصير غاية في ذاتها، فمعنى ذلك تفشي الكذب والنفاق والخديعة والتصنُّع، وغياب القيم الحقيقية).
* إن من أسباب هذا المرض النفسي؛ الذي تفشى في زمننا هذا؛ محاولة المريض جذب الانتباه بالإتيان بالغرائب، وإبراز التثقف لكي يُمدح، وعدم الاهتمام بالعلم، والمدح المبالغ فيه من المنغرين به، مما يوقع في قلبه أنه على شيء وهو لا شيء، والشعور بالنقص، ومحاولة سده بالتصدر في المجالس، والظهور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بما هو غريب وعجيب وملفت، فتراه متتبعاً عورات الناس، مشهِّراً بنقائصهم، لعاناً شتاماً، مفسقاً مكفراً والعياذ بالله:
* لله در هذا الشاعر الذي قال:
لا تكشفنّ مساوي الناس ما ستروا
فيهتك الله ستراً عن مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا
ولا تعب أحداً منهم بما فيك