عمر إبراهيم الرشيد
هل بدأ الأمريكان في الالتفات مجدداً إلى الإرهاب الداخلي من قبل الجماعات العنصرية والمنتمين إلى الميليشيات المعادية للحكومة الفيدرالية هناك؟. هناك دراسة جديدة تم نشرها هناك مفادها أن ضحايا هجمات اليمين المتطرف في أمريكا هم أكثر بمرتين من ضحايا الإرهاب، وفقاً للباحثين «تشارلز كيرزمان» من جامعة نورث كارولينا و»ديفد شانزر» من جامعة ديوك، حسب ما نشرته الزميلة (الشرق الأوسط) نقلاً عن صحيفة نيويورك تايمز.
ولعل آخر تلك الحوادث المؤكدة لبديهة أن الاجرام أو الإرهاب -سمه ما شئت- لا يمكن إلصاقه بدين أو ثقافة أو عرق بذاته، هو حادث دخول شاب أمريكي (أبيض) إلى كنيسة لأمريكيين ذوي أصل إفريقي واطلاقه النار على من فيها وقتله تسعة أشخاص، والدافع كما أظهرت التحقيقات عنصري محض.
وقضية الأمريكيين السمر أو ذوي الأصول الإفريقية لها جذورها في التاريخ الأمريكي، وفصولها لم تنته بعد رغم صدور القوانين التي تمنع وتجرم أي اجراء يحمل بعدا عنصريا، لأن القوانين لاتستطيع تغيير ثقافة متجذرة بمجرد صدور تلك القوانين، كما وان هي ردعت بعض الناس وغيرت من مفاهيمهم فلا تقدر على فعل ذلك في الجميع وهذه سنة إلهية في الخلق، فالعقول والقلوب ألوان شتى.
والمعروف ان الأمريكيين السمر إنما هم أحرار في بلدانهم الأصلية في القارة السمراء اعتقلوا عنوة تارة وبالحيلة والمباغتة تارات أخرى وهي الأسلوب الغالب، حيث ربطوا بالسلاسل ووضعوا في أقفاص وحمولات تجرها الخيول والبغال إلى مراسي القوارب في الانهار ومنها إلى السفن، حيث نقلوا عبر البحار إلى (العالم الجديد) وغيره من دول أمريكا اللاتينية بدءا من القرن السادس عشر الميلادي. وبهم تم بناء سكك الحديد والجسور وقامت بسواعدهم لكن بنظام أقرب إلى السخرة نهضة أمريكا الزراعية، في حقول الذرة والقطن والقمح والتفاح. ومع ذلك كانوا رقيقا يباعون ويشترون، حتى عندما اعلن الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن الغاء الرق باعتباره غير انساني، عارضت ولايات الجنوب الأمريكي هذا القانون فقامت الحرب الاهلية الأمريكية عام 1865م التي انتهت بانتصار الحكومة الفيدرالية ومعها الولايات الشمالية وتم فرض القانون. لكن بالطبع لم ينزع هذا القانون ماانطوت عليه نفوس الاقطاعيين واصحاب المصانع وجامعي الثروات بدماء وعرق اولئك المخطوفين من قارتهم الخضراء، لم ينزع من تلك النفوس شرها وشرهها وازدراؤها للقيم الانسانية في سبيل لقم نيران اطماعها. وبالطبع ليس هذا سائدا الآن بل تراجع مع تعاقب الاجيال وانتشار التعليم والمدنية وتطبيق القوانين. قلت تراجع بالنظر إلى نظام الرق والاستعباد الذي كان سائدا في ذلك الوقت، إنما كما قلت لم ينته ومايزال لدى فئة من البيض هناك وخصوصا متطرفيهم من المليشيات المعادية للحكومة والمؤمنة بتفوق العرق الابيض.
أقرأ هذه الأيام رواية (الجذور) لكاتبها الصحفي الأمريكي أليكس هالي والذي أنجزها في الستينات الميلادية، حولت إلى مسلسل أمريكي عرض بعضا منه التلفزيون السعودي عام 1978م. الفها في الستينات الميلادية وهي فترة شهدت ثورة للأمريكيين السمر قادها سلميا مارتن لوثر كنج لنيل حقوقهم. الرواية رصد لتفاصيل مجتمع الادغال والريف الإفريقي في غامبيا الإسلامية وماجاورها من دول القارة السمراء في القرن الثامن عشر وتحديدا عام 1750م، يأخذ المؤلف القارىء صحبة بطل الرواية الحقيقة الأصل كونتا عمر كينتي منذ وقوعه في الأسر في احدى غابات غامبيا إلى وصوله إلى العالم الجديد وما عاناه من ويلات الاستعباد والسخرة في حقول القطن الأمريكية. رواية تستحق القراءة للاحاطة بجذور قضية العنصرية ضد الأمريكيين السمر احفاد اولئك الذين خطفوا من ديارهم. أوليست الرواية نوافذ نطل منها على المجتمعات غربيها وشرقيها، بل تأخذنا لنعيش بين مجتمعات تفصل بيننا وبينها آلاف او مئات السنين، أو معاصرة تحجز بيننا وبينها بحار وجبال وفيافي، فكيف ان كانت تلك الروايات حقيقية أو مبنية على احداث وقعت بالفعل، عندها تكون المتعة والفائدة أضعافا. على أنه من المعروف أن الروائي انما ينسج فصول روايته وان بدت خيالية من واقع حياته وحياة من حوله، يعيد صياغة أحداث مرت به ويدخل شخصيات أقارب له واصدقاء باسماء أخرى، وعلى قدر خصوبة خياله وصدق نقله لواقع مجتمعه، تأتي هذه التوليفة الرائعة لتتلقفها الأيدي بشغف كبير.
أعود لأقول هل انتهت التفرقة العنصرية ضد السمر في أمريكا، رسمياً نعم، انما لم تنته لدى فئات شعبية، بل وحتى بعض من يعملون في اجهزة الشرطة، واحداث فيرغسون والاباما وغيرها كشفت ذلك. هذا من جهة، ومن جهة اخرى بدأت أوساط عريضة حكومة وشعبا هناك تدرك ان الإرهاب لا يمكن لصقه بدين او عرق او ثقافة بذاتها، وانه يوجد إرهاب محلي أمريكي كذلك.
الثقافة الأمريكية صار يغلب عليها النزعة الاستهلاكية السريعة، لا قراءة بين السطور ولا نظرة أعمق في الحياة.. فليعودوا إلى (الجذور).