أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(19 - لِمَ انطمستْ الآثارُ المصريَّة بالجزيرة وبقيتْ اليَمَنيَّة؟!)
قلنا إن (د. كمال الصليبي) كان يسعى إلى نقل (مِصْر) إلى (عسير) بأي صورة، لتستقيم ترتيباته الغرائبيَّة. وتلك دعوَى وافقت أهواء بعض قرائه من هنا وهناك، لكنها لا تستند إلى بُرهان. أمعن في هذا إلى درجة أن أسماء المدن المِصْريَّة الواضحة الانتماء، ك«فيثوم»، أو «رعمسيس»، تصبحان على يديه: (آل فُطَيْمَة)، و(المصاص)، في (بِلقَرن)!(1) فماذا تنتظر بعد هذا من دلالة على العبث والمكابرة؟! «أما «النهر الكبير»، (نهر فرت = الفُرات)، فهو «بدون أدنى شك» [لاحظ «بدون أنى شك»، هذه التي يُشهرها في وجهك!] وادي (أضم)؛ لا لشيء إلَّا لأن هناك إلى اليوم قرية اسمها «الفرت». ويَستنتج قائلًا: «إذن، لم يكن هناك لا نِيْل مِصْري ولا فُرات عراقي في وعد الرب يهوه لأبرام.»(2) مع أنه تارة يَعدل عن هذا التحديد، فلا يستقرّ على حال؛ فيزعم أن (الفُرات) وادي (خارف) بجوار (تنومة)، لا بل هو (طارفة) من روافد (بيشة).(3) وهكذا دواليك في مضطربٍ لا نهاية له؛ لأن مغريات الأسماء كثيرة جدًّا في أماكن شتَّى، وما عليه سوى أن يغترف منها ويدبِّج الكتب، محاولًا أن يوازن الأمور لنقل التاريخ التوراتي كلِّه إلى جنوب غرب الجزيرة العربيَّة. وضاع نهر الفرات بين الأودية والشعاب!
أمّا (حدقل)، أو نهر (دجلة)، فاسم له علاقة بقرية (آل جحدل) في (سراة عبيدة)! ودجلة هي لديه ببساطة: (وادي تندحة)! فسبحان من يطوي السماء والأرض كطيّ السجل للكتب!
ولو عَلِم أيضًا أن بيتًا لدينا في جبال فَيْفاء (عفوًا: في جبل جلعاد سابقًا!)(4) سمّاه أهله- كعادتهم في تسمية البيوت-: «مصر»، لو علم هذا لساعده أكثر لحمل مِصْر إلينا على طبقٍ من تأويل؛ فهو اسم مطابق لاسم مِصْر! وهناك بجانبَيه واديان عظيمان، وادي (ضَمَد) ووادي (جوراء)، وهما أكبر من وادي (لِيَة). ويبدو أن هذين الواديين هما (النِّيْل الأزرق) و(النِّيْل الأبيض) أساسًا، وأن أحدهما أو كليهما عُرِف في الأزمنة التوراتية بنهر مِصْر! كيف لا، وفي فَيْفاء أيضًا أمكنة ترجِّح ذلك التأويل جدًّا، كمكان اسمه (المحلَّة)، وآخر اسمه (المعادي)، وثالث اسمه: (مَنَفَة)، ورابع اسمه: (نَيْد الحَرَم)، الذي «لا بد» أن أصله: «نجد الهَرَم»، أي هضبة الهَرَم، وخامس اسمه (نَيْد الصَّعيد). إضافة إلى أماكن أخرى يمكن تحليلها وتأويلها على طريقة الصليبي، واستحلاب تاريخٍ جديدٍ منها لمِصْر القديمة. ليس هذا فحسب، بل لقد عُثِر منذ سنوات على تمثالٍ فرعونيٍّ صغير للمَلِكة (حتشبسوت، 1490- 1468ق.م) في جبال فَيْفاء. وهي ابنة المَلِك (تحوتمس الأوَّل)، والمَلِكة (أعح مس). من أشهر مَلِكات الفراعنة وأقواهنَّ نفوذًا، فلُقِّبت بالمَلِكة العُظمَى. أنشأتْ لآمون معبد الدير البحري الجنائزي، على الشاطئ الغربي من نهر النِّيْل عند مدينة (طيبة- الأقصر)، في (الصَّعيد)، وأطلقتْ على نفسها: زوجة الإله أو عابدة الإله، وكذلك ابنتها (موت أم حات).(5) وبهذا، فما دامت عبارة «يبدو» ستقلب الخارطة الجغرافيَّة والتاريخيَّة رأسًا على عقب، فكل يستطيع أن يجعل أيّ شيء يبدو أيّ شيء! لكن بَوْنٌ بَيِّنٌ بين مفهومَي التأويل وضرب الودع!
إن ربط الصليبي اسم (مِصرايم) العِبري بقريةٍ اسمها (المصرمة) في عسير مغالطة لغويَّة وتاريخيَّة كبرى، كما تقدَّم. ذلك أن اسم المصرمة في عسير اسم عربي له مبناه الاشتقاقي، ومعناه العربي الخاصّ(6)، فيما استعمال التوراة اسمَ مِصرايم للإشارة إلى مِصْر شأن لغويٌّ خاصٌّ بلغة التوراة. ولم تتفرَّد العِبريَّة بذلك، بل كان يشار بمثله في لغات أخرى إلى مِصْر، كالأوجريتيَّة، التي تسمِّي مِصْر: «م ص ر م»، والفينيقيَّة، التي تسمِّيها: «م ص ر ي م»، والآراميَّة، التي تسمِّيها: «م ص ر ي ن». ولا يعني هؤلاء مصرمة عسير، قطعًا، بل لم يسمعوا بعسير برمَّتها؛ فاسم عسير نفسه اسم غير قديم الاستعمال كما بيَّنا من قبل، فضلًا عن مصرمته التي لم يسمع الناس بها قبل اكتشاف الصليبي! وكأنما تلك الزيادات على اسم «م ص ر» في بعض اللغات القديمة هي من قَبيل تنوين الاسم في تلك اللغات، أو من قَبيل تعريفه. وهذا افتراضٌ يُرجَع فيه إلى علماء اللغات القديمة. بيد أننا سنجد الأكديَّة لا تستعمل مثل تلك الزيادات، فهي تُشْبِه العربيَّة في تسمية بلاد النيل ب»مِزْرُ، مُزِر، مُصُرْ، مُصْرِ، مِصِرْ». بل لم يكن المِصْريُّون أنفسهم يطلقون اسم «مِصْر» على بلادهم، كيما يُفترَض بالضرورة إطلاق الآخرين هذا الاسم عليها، أو يُفترض الاتفاق بين اللغات واللهجات في نُطق الاسم، وإلَّا استُدِلّ من عدمه على أن المقصودة بلاد أخرى. فقد كان المِصْريُّون يسمُّون بلادهم: «ك م ت»، أي: (بلاد السواد). أو «ت أ و ي»، أي: (البَلَدين)، إشارة إلى مِصْر العُليا والسُّفلَى. أو «إ د ب و ي»، أي: (الضِّفَّتَين)، إشارة إلى ضِفَّتَي وادي النِّيْل.(7) وقد سَبَقت إشارتنا إلى ما سجَّله (المقريزي)(8) ممّا تناهَى إليه حول السبب في تسمية مِصْر بهذا الاسم.
ولا غرو أن تعليق الصليبي براهين مزاعمه على مِشجب مكتشفاتٍ أثريَّة قد تُثبت نظريته مستقبلًا مغالطة أخرى مفضوحة، وهروب من البرهنة على ادّعاءاته. والتنقيبات الأثريَّة لا تُجرَى إلَّا في ضوء معلومات أوَّليَّة يُعتدّ بها عِلْميًّا، أو لقيام شواهد يقدِّرها ذوو الاختصاص عن احتمال مكتشَفٍ أثريٍّ ذي قيمة في أرض ما. لا على أساس نظريَّةٍ رأس مالها: هذا المكان يحمل اسمًا شبيهًا باسمٍ تاريخيٍّ قديمٍ، فلنحتفره، إذن، لنتأكَّد! هذا عبثٌ، لا بحث. والواقع أنه لا معلومات يُعْتَدّ بها عِلْميًّا توافرت، ولا شواهد عن احتمال وجود ما أشار إليه الصليبي ظهرت حيث أشار. هذا على الرغم من العثور على آثار (معينيَّة)، على سبيل المثال، وعلى كثير من نقوش المعينيِّين في أماكن مختلفة من الجزيرة العربيَّة. ومنها أماكن في (الحجاز)، ك(يثرب)، و(فدك)، و(العُلا)، وأخرى خارج الجزيرة، مثل (فلسطين)، و(أنطاكيَّة)، و(اليونان). بل عُثِر على بعضها في الصحراء الشرقيَّة من مِصْر؛ إذ كانت بين الحضارتَين المِصْريَّة واليَمَنيَّة علاقات تجاريَّة.(9) فعلامَ، إذن، انطمس تاريخ المستعمرات المِصْريَّة المزعوم في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة انطماسًا تامًّا، فلا نقش هناك ولا تمثال ولا أثر؟ ولماذا عُثِر على آثار مَعِيْنِيَّة هنا وهناك ولم يُعثر على أثرٍ مِصْريٍّ واحدٍ، مع ما يزعمه الصليبي من مستعمرات مِصْريَّة عريقة هناك، لا مجرد علاقات تجاريَّة مع مِصْر، ومع ما يدّعيه من تاريخٍ امتدَّ قرونًا، ومن مظاهر حضاريَّة أشدّ تفوُّقًا من نظيرتها اليَمَنيَّة، ومن معاصرة أحداثٍ جسامٍ خلّدتها الأساطير، وجاءت في كتابَي اليهود والمسلمين، فضلًا عن الهيمنة المرويَّة لمملكة (سليمان) على ممالك (سبأ) جملةً؟!
لقد كانت مملكة (مَعين) إحدى تلك الممالك (الفيدراليَّة) التي انضوت تحت مملكة سبأ، التي واجه سليمانُ مَلِكتها (بِلقيس)، وقضى على مُلكها ومملكتها، كما جاء في القِصَّة التوراتيَّة والقرآنيَّة. لكنها ظلَّت لسبأ ولمَعين آثار ونقوش في جنوب غرب الجزيرة العربية، وفي شمال الجزيرة العربيّة، وفي خارج الجزيرة العربيَّة، وصولًا إلى (أفريقيا) و(أوربا)، وما بقي لمملكة سليمان، ولا للمستعمرة المِصْريَّة المزعومة، ولا لكلّ ذلك التاريخ «الفنتازيّ» المدَّعَى، من أثرٍ في جنوب الجزيرة العربيَّة. فإلامَ يشير هذا؟ أمَّحى تراثُ الغالبِ كلُّه عن بكرة أبيه من ذاكرة الزمان والمكان وبقي تراثُ المغلوب؟ كلَّا، لم يَمَّحِ، لكنه لم يكن هناك أصلًا. فشتّان بين لوثات الخيال المجنّح ووقائع التاريخ وقرائنه العِلْميَّة وشواهده الخالدة!
** ** **
(1) انظر: الصليبي، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 243.
(2) انظر: م.ن، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 260.
(3) انظر: م.ن، 276.
(4) انظر: م.ن، 285.
(5) وقد نُشِر تقرير عن العثور على ذلك التمثال في (جريدة «الرياض»، الثلاثاء 6 جمادى الأولى 1415هـ= 11 أكتوبر 1994م، ع 9605، ص13)، تحت عنوان «الملكة حتشبسوت تظهر في فَيْفاء». وهو- إنْ صحّ انتماؤه إلى الحضارة المِصْريَّة القديمة- يدلّ على علاقات كانت للمنطقة بِمِصْر، لكنه لا يكفي بحالٍ للدّلالة على شيءٍ من افتراضات الصليبي الواسعة.
(6) راجع تحليلنا اللغوي لهذا الاسم في مقالاتنا السابقة.
(7) انظر: السعيد، سعيد فايز، (2003)، العلاقات الحضاريَّة بين الجزيرة العربيَّة ومِصْر في ضوء النقوش العربيَّة القديمة، (الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنيَّة)، 27- 28.
(8) انظر: (1998)، المواعظ والاعتبار بذِكر الخِطط والآثار (المعروف بالخِطط المقريزيَّة)، تحقيق: محمَّد زينهم ومديحة الشرقاوي (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 1: 56.
(9) وممّا عُثِر عليه في مِصْر من الآثار المَعينيَّة تابوتٌ خشبيٌّ، في (صقارة) بالقرب من (القاهرة)، يرجع تاريخه إلى 263ق.م تقريبًا، منقوش عليه بالمسند اليماني، لتاجر مَعيني اسمه (زيد إل/ زيد اللات)، يبدو أنه كان له شأن عند المِصْريّين، فلقّبوه بـ(الكاهن المطهَّر) ودفنوه على الطريقة (الأوزيريسيَّة)، في السنة الثانية والعشرين من حُكم الملك (بطليموس بن بطليموس)، لعلَّه بطليموس الثاني. (انظر حول هذا: بافقيه، محمَّد عبدالقادر، ألفريد بيستون، كريستان روبان، محمود الغول، (1985)، مختارات من النقوش اليَمَنيَّة، (تونس: المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم)، 24، 293- 295؛ السعيد، 69- 75، 116- 119؛ علي، جود، (1993)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بغداد: جامعة بغداد)، 2: 119- 124).