د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لدينا في مجتمعنا مقولة أضحت عرفًا سائداً وهي أن الرجل ينقل عيبه والمرأة بما معناه ينقلها عيبها. وتنطوي هذه الاستعارة اللغوية على أن الشاب لو أخطأ وارتكب المحرمات فإنه يستطيع التراجع فيما بعد ويصفح عنه المجتمع بينما يلازم الخطأ الفتاة طيلة عمرها.
.. وفي هذه المقولة إجحاف كبير في حق الفتاة أو المرأة وشبه تبرئة للشاب أو الرجل فيما لو اشتركا معا في المحظور ذاته. فحمل العيب للشاب يعني أن يمنح فرصة أو فرصا للتراجع فيما بعد ليطوي صفحة أيامه السوداء أما الفتاة فلا تمنح أي فرصة مماثلة. وبهذا الشكل فنحن نعيش ازدواجية واضحة جداً فيما يتعلق بالتفرقة المرتبطة بالعيب التي أصبحت مقبولة بشكل تلقائي.
وتكاد تكون جرائم الشرف في عالمنا العربي محصورة في المرأة فقط. والقيود فيما يتعلق باللبس والتصرف تحصر في المرأة فقط، و من المألوف اليوم أن تجد رجلاً يلبس الشورت والكاب وبكامل أناقته الصيفية على آخر ما توصلت له الموضة الغربية يمشي بجانب سيدة متسترة بالكامل تكاد تخنقها الحرارة والرطوبة وفوق ذلك هي من تحمل الطفل أو المتاع بينما هو أمامها يتبختر في مشيته. والحقيقة أن التعامل مع المرأة في مجتمعنا والنظرة الضيقة لها لم تولد من فراغ بل من ثقافة مجتمعية مغرقة بالتفرقة بين الجنسين ولا علاقة لها بالدين.
فالإسلام كرم ابن آدم عموماً رجلاً وامرأة. وخاطب الرجل و المرأة على حد سواء وبشكل متواز فيما يتعلق بالأوامر والنواهي. وأول درس تعلمناه في المدرسة كمصدر فخر إسلامي هو أن الإسلام منع وأد البنات أي رفع الاحتقار المبدئي الأبدي الذي فرض عليهن في الجاهلية. وقد منح الإسلام المرأة حقوقاً لم تمنح لهن سابقا في أي دين أو ملة. لكن افتراض العفة في المرأة وحدها هو جزء من موروث ثقافي أساسه غير ديني بالطبع وهي جزء من رؤية المجتمع الأوسع للمرأة التي تحتم تفسير بعض النصوص الدينية المختلف عليها بأسلوب متشدد وتأخذ شكلاً أقل تشدداً في المجتمعات المحيطة بنا التي لم تمر بظروفنا الثقافية. وقد يكون سبب تطور هذه الرؤية طبيعة الحياة في الجزيرة العربية في حقب مختلفة من تاريخها حيث حتّم الترحال الدائم والصراعات القبلية والاقتتال المستمر المعتمد على القوة في السلب والسبي تراجع دور المرأة للأدوار الخلفية. ومعروف أنه في الحروب القبلية ومنها ما نشاهده اليوم على أنها حروب الإسلامية في ممارسات الجماعات المتطرفة ينظر للمرأة كجزء من المتاع الممكن سبيه والسطو عليه. كما أن انتشار العبودية في حقب من التاريخ وتبادل النساء والإماء كنوع من الهدايا انسحب أيضا على النظرة العامة للمرأة عموما حيث يكون غلاء المهور أيضاً دليلاً على علو شأن قيمة الحرة مثلما السعر دلالة على قيمة الأمة. وعندما يتم يتبادل الإماء كهدايا، أو الاقتران من بقية النسوة عبر المهور المبالغ فيها فهذا ما هو إلا أسلوب استعاري يجسد النظر لهن ضمن النظام السلعي المجتمعي الذي يقوم أيضاً على مقايضة السلع في المجتمع. وكان الاقتران بعزيزة قوم يعني الظفر بمكانة اجتماعية خاصة تظهر دور ولو خلفي في القبيلة لبعض النساء ضمن النطاق النسوي المعزول تماما في القبيلة. وكان من تأكيد القبائل على الذكورة أن النشء بمجرد تجاوزه سن الطفولة يتم تعزيز وعيه بكونه رجلاً، وأنه يجب أن يتعلم ما يصطلح عليه «بعلوم الرجال»، ويتم ذلك بالتأكيد على صفات معينة فيه وضمن طقوس وأدوار معينة تعد حصرية على الرجل مع أن المرأة أيضا تستطيع الاشتراك فيها لأن بعضها قيم عامة لا علاقة لها بالجنس، فالمرأة قد تكون كريمة وشجاعة، مثلا. ومثلما نزل التحريم التدريجي في الخمر في الدين الإسلامي، كان أيضاً التدرج في تغيير النظرة السلبية للمرأة في المجتمع الجاهلي الصارم، فنزلت النصوص بتحريم وأد البنات في ابداية وتبع ذلك نصوص أخرى أقرت لها حقوقا مساوية للرجل في المجتمع تقريبا مع إبقاء حق القوامة للرجل كواجب وليس ميزة كما يعتقد لأن القوامة مرتبطة أيضا برعاية الأطفال وتحمل جزء من المسؤولية الاجتماعية عنهم. فالقرآن الكريم بالرغم من رسالته الكونية نزل في وسط قبلي عربي، ولذا فالقياس في بعض الأمور التي شرعها يشمل القياس في أساليب المعالجة وليس فقط على أحكام القضايا حصراً، فالإسلام هنا يكون مع مساواة المرأة مع الرجل في الحقوق والواجبات لاسيما أنه لم يفرق بينهما في العبادات.
وعلى ما يبدو فإن كثيرا من الأمور التي ينظر لها اليوم على أنها جزء من الدين مصدرها أو مصدر تفسيرها مرده أعراف اجتماعية وليس نصوص الشرعية. فنظام الثواب والعقاب هو ذاته للمرأة والرجل في الإسلام. وما نهيت عنه المرأة نهي عنه الرجل، والعقوبات سواء كانت قصاصاً أو تعزيراً أو تأديباً متساوية لحد كبير، باستثناء بعض الأمور كالمواريث والشهادة وهي أمور استثنائية إذا ما نظر للشريعة ككل. ومن ينظر للبيئة الإسلامية الأولى يجد نساء لعبن دوراً كبيراً في أمور تعد تقريباً حكراً على الرجال سابقاً كالنشاط السياسي أو حتى الخروج على رأس الجيش كما فعلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الذي أخذ عنها المجتمع أيضاً الكثير من أحاديث السنة النبوية فيما أخذ على أنه شهادة صادقة على سنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. غير أن كثيراً من الأعراف السابقة التي ترجع له في فهم وقياس التشريع أحياناً والتي تؤثر فيها الأعراف المجتمعية بشكل كبير استمرت في تغذية نظرة بعض المجتمعات الإسلامية للمرأة بشكل دوني.
فالقول بأن الرجل يحمل عيبه قول مصدره أعراف قبلية لا مصدر تشريعي ولا علمي (علم طبيعي، أو قانوني) يسنده. فالعيب واحد وإثمه ووزره عند الله واحد ولكن الأعراف الاجتماعية تتسامح مع الشاب وتقمع الفتاة. ولو أضفنا لذلك النظرة المبالغة في التخيل للمرأة في مجتمعنا نتيجة للفصل بين الجنسين لوصلنا لفهم معقول لتوجسنا المخيف من عيب المرأة وتسامحنا مع عيب الرجل. ومن المسلمات المنطقية أن المرأة لا يمكن أن ترتكب أمراً يعد عيباً أو عاراً أو إثماً إلا بمشاركة رجل. فالحفاظ على قيم المجتمع خالية من العيوب يتطلب أيضاً التشنيع لعيب الرجل وليس فقط ذلك المرتبط بالمرأة.
ورؤيتنا للمرأة تغذيها أيضا نظرتنا للفصل بين الجنسين حيث يعزل المجتمع المرأة عن كثير من النشاطات التي يوجد بها الرجل ولذا فتجد الشباب يتحين الفرصة للتحرش بالمرأة في المجالات المتاحة للاختلاط بها: الأسواق، الشوارع الخ.. مما يحد من حرية حركة المرأة إلى حد كبير ويسبب أذى كبيراً لها. كما أن القيود الأخلاقية المفروضة على المرأة وإلى حد أكبر على الفتاة تحتم على الشباب التفنن والبراعة في التغرير بالفتيات. والفتيات في نهاية الأمر بشر، ولهن التصورات والتطلعات ذاتها التي لدى الشباب إلا أنهن يكبتهن بسبب سطوة الأعراف أيضا. وفي أعمار صغيرة وبسبب طبيعتهن الأنثوية التي خلقها الله فيهن تظهر لدى الفتيات ميول طبيعية غريزية للشباب يستغلها بعض الشباب المنفلت للإيقاع بهن.
فالنساء والفتيات يظلمن كثيراً في قضايا العيب هذه ولا يمنحن فرصاً للعودة للحياة الطبيعية إذا اخطأن. ولو استطعنا خلق نوع من التوازن في نظرتنا للعيب تساوي ولو إلى حد ما بين الجنسين لاستفاد المجتمع كثيراً من ذلك. فليس من الجائز أن يتمادى الشباب في التحرش بالفتيات الأخريات ثم يتشددون بشكل مبالغ فيه مع أخواتهم. فقد نهى القرآن من يأمر بالمعروف أن ينسى نفسه، والعرب تردد حكمة أبو الأسود الدؤلي في النهي عن الخلق والإتيان بمثله. فالعيب للرجل والمرأة سيان.