د. جاسر الحربش
عندما تصل الأحوال الأمنية من حولنا إلى اضطراب شامل ويتحرش بنا الإرهاب المتوحش من داخل وخارج الحدود ونجد أنفسنا في حرب مع قوى أجنبية بأجندات مذهبية طائفية في اليمن تشير الاستدلالات إلى أنها سوف تطول، في مثل هذه الظروف يصبح الأمن المعيشي بتفاصيله المدنية المعروفة هو التوأم المطابق للأمن الجنائي والعسكري.
الوضع يتطلب بإلحاح وسرعة إعادة النظر في وضعنا الأمني المعيشي الوطني، واسترداده من الارتهان للأيادي العاملة المستقدمة إلى الأيادي الوطنية. يصعب تصور الخروج من هذه الأوضاع المضطربة بدون السيطرة على مفاصل الأمن المعيشي، وذلك يستدعي إلقاء نظرة على واقع الحال والاعتراف به.
واقع الحال يقول إن أعمال البناء والتشييد والترميم والصيانة، والخدمات المهنية في الكهرباء والمياه والنجارة والسباكة، وبرمجة وتخزين المعلومات التجارية والمدنية، ورصف الشوارع، والطبابة والتمريض والصيدلانيات، وخدمات السيارات والمحروقات والزيوت، وحتى توزيع المادة الخطرة غاز الطبخ، البيع والشراء والتوصيل، خدمات النقل العامة والخاصة، جمع النفايات ونظافة وصيانة الأحياء والشوارع، خدمات المطاعم والفنادق والأكل والشرب، خدمات الاستقبال ونقل العفش والتوديع في الموانئ، تجارة الزراعة وجني المحاصيل وبيعها في الأسواق، وباختصار كل شيء ما عدا الأكل والشرب والتكاثر وقضاء الحاجة، لا يساهم المواطن السعودي فيه بما يستحق الذكر في أي دراسة إحصائية. مقابل ذلك لدينا ملايين الفتيات العاطلات عن العمل المرابطات في البيوت أمام أجهزة الدردشة والفضائيات بانتظار النصيب في الوظيفة والزواج، ولدينا ملايين الشباب العائشين على الإعانات العائلية أو الحكومية، يصيعون في الأسواق وميادين التفحيط ومقاهي التدخين تحت عيون ومراقبة تجار المخدرات ودعاة الإرهاب. قنابل موقوتة شبابية، قنابل أخلاقية وطائفية ومذهبية، إلى آخر الكمائن التي تغتال عادة مجتمعات الرفاه الرخوة النائمة على بركة الله، وكأن البركة حكر عليها دون العالمين ولا تحتاج إلى عمل للحصول عليها.
لدينا عقلية تعامل ومفاهيم عبقرية لتضييع الأموال والموارد والوقت بكفاءة مذهلة، وكأن هدف هذه العبقرية الأول سلب المستقبل وتصفيره على درجة الفقر وتسليمه للأجيال القادمة، والمتوقع أن يحصل ذلك خلال عقود قليلة جداً من السنوات.
تخيلوا فقط الاحتمال المنطقي التالي: مواردنا المائية والزراعية والنفطية والمعدنية تتناقص بمتوالية حسابية واضحة، وكل دولة نستقدم منها عمالة الخدمات المذكورة أعلاه تلتحق واحدة تلو الأخرى بعالم التقدم والتصنيع والاكتفاء الذاتي من خلال التركيز على تعليم أبنائها وبناتها، ثم تنسحب من أسواق العمالة الرخيصة بعد أن دربت كوادرها عندنا وعلينا في كل الأنشطة الإنتاجية والخدماتية، ثم فجأة نجد أنفسنا مع أنفسنا فقط، بموارد شحيحة وملايين المواطنين الذين لا يجيدون شيئاً سوى الأكل والشرب والتكاثر وقضاء الحاجة، عندئذ كيف سوف نتعامل مع الأمن والاحتياجات المعيشية والصحية والخدماتية.
ولكن وللأمانة الإحصائية، ربما ما زالت هناك مهنة نجيدها وتفيض عن الحاجة بحيث نصدرها إلى الخارج، هي إصدار الفتاوى المقيدة للاعتماد على النفس. لن يتطوع أحد عندما تشح الموارد لخدمة الآخرين بدون تحيز انتمائي خاص، بل سوف تنشأ تكتلات فئوية تستقوي ببعضها على حساب الفئات الأخرى، ولن أكمل باقي الاحتمالات بسبب القلق الذي بدأت أشعر به منذ الآن من المستقبل.
كتب الزميل والصديق المتميز الدكتور عبدالعزيز السماري في هذه الصحيفة قبل أيام مقالاً تحت عنوان: نحن نعاني. قرأت المقال مرتين وهززت أو هزأت رأسي عدة مرات، ولم أستطع التعليق إلا بهذه الكلمات: بل نحن أيضاً في مأزق معيشي يا صديقي وبأعمق كثيراً مما تتخيل. نحن نحتاج إلى عقول تفكر وتطبق بطرق مختلفة تماماً عن العقول التي أملت علينا حتى الآن التعامل المتسيب مع المال والماء والوقت والشباب والتعليم.