أ. د. فالح العجمي
إذا كنت من أصحاب السفر والالتقاء بالمنتمين إلى ثقافات أخرى، أو حتى كنت من أصحاب القراءة عن تلك الثقافات بصورة جادة؛ فستكون بكل تأكيد قد لاحظت أن المجتمعات المختلفة تتباين في نظرتها إلى ثقافتها المحلية وإلى ثقافات الآخرين. كما أن التعامل مع الأوضاع والتطورات ليس هو نفسه في تلك البيئات المتباينة، ولا النظرة إلى الأشياء وتأثيرها في الحياة على الدرجة نفسها من الأهمية في وجهات نظر كل مجتمع ورؤيته إلى العالم.
نخلص من هذه المقدمة إلى أن ثقافة الشك واليقين ليست من المكونات البيولوجية للبشر، بل يكتسبونها من معارفهم الحضارية، وتعاملهم مع ظروف الحياة بصورة تراكمية، لا فضل لأمة من الأمم إلا بقدر الإضافة إليها، وليس ابتكار أساليبها. كما أن ثقافة الأسئلة وأنواعها في كل سياق وموقف حياتي، هو ما يجعل مجتمع من المجتمعات يتفوق على غيره في تثقيف أبنائه، وصقل عقولهم، لأنه من غير السؤال الجيد والمناسب، لن يكون هناك فكر متسق وبنّاء في ذهن من يطرح السؤال، ويتلقى الإجابة أو الإجابات المختلفة عليه.
مررت بتجارب مختلفة بشأن نوعية الأسئلة التي أتلقاها في الشارع أو في مجال العمل، أو في إطار الأسرة والعائلة؛ وقد كانت – في ظني – ثرية وتدعو إلى مشاركة الآخرين في تأملها. حيث كانت أغلب الأسئلة، التي تلقيتها في وطني أثناء التواجد في الأماكن العامة، هي تلك البسيطة والشخصية بالدرجة الأولى. بسيطة في بنائها اللغوي، وفي مداها المعرفي، وشخصية، لأنها لا تتعامل معي بوصفي عنصراً من مجموعة كبيرة متساوية في الحقوق والواجبات؛ بل تفتش عن كل عناصر الهوية للتعامل بما يتناسب معها. وفي مجال العمل، ولكوني أكاديميا، فإن الأسئلة أيضاً بسبب انتشار تلك الثقافة العامة لدى المجتمع تتسم بالبساطة، وتركز على الجانب العاطفي، من المساعدة والمراعاة وتقدير الظروف، وليس على التعامل المتساوي مع كل الأشخاص، الذين تنطبق عليهم الحالة في التقويم أو الترشيح وغيرهما. أما في مجال الأسرة الصغيرة، فقد كان الوضع مختلفاً؛ إذ كانت تفاجئني أحياناً بعض الأسئلة العميقة، وذات الدرجات المركبة، التي تجعل المرء يعاود النظر في مسلماته، وتضيف إلى خلفياته الفكرية عند محاولة الإجابة عنها. وقد أعدت الأمر في بعض فترات التفكير بشأن هذا الاختلاف إلى عوامل التربية، وحرية التفكير التي تتاح لهم في المنزل؛ لكنني عرفت أيضاً من بعض الأصدقاء أن شباب هذا الوطن، عندما يكون في بيئة صغيرة وآمنة يبدع في اختراق حدود التسليم، التي وضعتها له بعض القوى التقليدية، التي يخدم هذا التشبيك أجندتها.
أما خارجياً فقد كان الأمر بالنسبة لي ممتعاً في التعرف على نوعية تلك العقليات البشرية، خاصة في المجتمعات المنفتحة، التي لا يحد العقل حدود للانطلاق وسبر أغوار طرق جديدة في التفكير المختلف عن سابقة في كل مرة. تنطلق غالبية تلك الأسئلة في المجتمعات الغربية، ليس من المسلّمات، فهي لا تحتاج إلى أسئلة، بل مما وراءها. وكانت أطرف المواقف الفكرية التي تستحثني على التفكير والانسجام مع من يسألني في حوار قصير عابر، أو مطوّل خاص، هي تلك التي تكون الأسئلة فيها مركبة، والسؤال يبدأ بكيف، ثم يعقبه استنتاج وتحليل، ليبدأ بعدها عدد من الأسئلة المرتبطة بالأرضية الفكرية لتلك الكيفية. وفي البلدان التي قمت فيها بالتدريس، أو إعطاء محاضرات عامة أو متخصصة، لم تكن تشدني مثل الأسئلة التي لا تنطلق مما قدمت، كما هي الحال عندنا في الإطار المعرفي الضيق، بل فيما يُعمل المناقش عقله فيه، ليضيف إلى المحاضر والمعلم تجربة جديدة وممتعة.