د.علي القرني
في مقال الأسبوع الماضي استعرضت الاستعانة بالجامعات وأهل الاختصاص العلمي في تشخيص ووضع حلول لمشاكل كبرى في المجتمع، وأشرت إلى استعانة أجهزة الاستخبارات والمباحث الأمريكية بأساتذة جامعيين لوضع حد للخطر الأحمر (الشيوعي واليساري)
الذي كان يتغلغل في المجتمع الغربي وخاصة الأمريكي وتحديدا الجامعات الأمريكية وبين أوساط الشباب فيها على وجه الخصوص وذلك في حوالي ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت الإستراتيجية الأولى التي وضعها أساتذة جامعيون (أحدهم بارسونز من جامعة هارفارد) هو أن يتم وضع بدائل للفكر اليساري، فليس مهما - رغم أهميته - أن يتم نقد النظرية الماركسية، فهذا لا يجدي كثيرا بقدر أهمية أن يتم وضع نظرية جديدة تشغل الرأي العام الجامعي من أساتذة وطلاب وباحثين ومؤلفين. وهكذا تم البناء على النظرية الوظيفية وأصبحت هي الشغل الشاغل للمجتمع الأمريكي والغربي بشكل عام، وحتى امتد الاهتمام بها إلى المجتمعات النامية.
وكان السياق العام لموضوع المقال السابق وهذا المقال هو الخطر الذي يشكله داعش على بعض افراد مجتمع الشباب، واستهدافهم بشكل خاص الشباب السعودي والخليجي، وذكرت أن غياب إستراتيجية إعلامية لمواجهة داعش كانت هي أحد أسباب تنامي مثل هذا الخطر، مستشهدا بنموذج من العمل الدرامي لمسلسل «سيلفي» الذي عرضته mbc خلال شهر رمضان، وتحديدا ثلاث حلقات كانت داعش موضوعها. ولاشك أن وسائل إعلامنا الرسمية والخاصة، التقليدية والجديدة لم تتمكن إلى الآن من وضع مسار واضح لإستراتيجية إعلامية لمواجهة خطر داعش على بعض عقول شبابنا.
إن دخول «سيلفي» على خط المواجهة ضد خطر داعش أضاف بعدا جديدا لوسائل المواجهة، فكما نعرف أن الإستراتيجيات الإعلامية لمواجهة أخطار كبرى تتخذ خطوطا متعددة، من أبرزها الخط الإخباري والخط الدرامي (مشتملا على الكوميديا) والخط الثقافي. وفيما يلي توضيح لملامح القصور الواضح على كافة خطوط المواجهة مع الفكر الضال الذي تتبناه داعش وتضلل به بنجاح بعض عقول شبابنا وشاباتنا للأسف الشديد.
* غياب أهداف الحملات الإعلامية: فلا توجد أهداف واضحة لهذه الحملات التي نقرأها ونسمعها ونشاهدها، عدا هدف افتراضي هو حماية المجتمع من خطر داعش، وهو هدف عام جدا. ولم يتم بلورة أهداف إجرائية واضحة ودقيقة لمثل هذه الحملة. ولهذا نجد جهودا متناثرة متناقضة عشوائية لا ترتبط في كثير من الأحيان ببعضها البعض. وعدم تحديد أهداف للحملة يجعل منها جهودا مبعثرة تائهة في وسائلها واتجاهها ومضامينها.
* غياب مركزية التفكير: لو نظرنا إلى ما نشاهده من مضامين وأشكال في إطار الحملات الإعلامية والاتصالية لمواجهة خطر داعش، سنلاحظ أنها أشبه ماتكون بملعب لكرة القدم كل لاعب لديه كرة ويلعب بها لوحده، دون تنسيق أو حتى شعور بأن أحدا حوله ويلعب معه على نفس الأرضية. ليس هناك مدرب وليس هناك تكتيك وليس هناك خطة. وإذا أخذنا وزارة الثقافة والإعلام كمثال لأن تكون هي الجهة المركزية لهكذا حملات سنجد أنها أبعد ماتكون عن ذلك، فوسائلنا الرسمية - وبكل شفافية - هي أقل وسائل الإعلام عطاء وإيجابية في الحملة لمواجهة خطر داعش. فلا توجد إستراتيجية إعلامية ناهيك عن دور تنسيقي لحملات ضد مثل هذا الخطر الكبير الذي يواجهة المجتمع.
* غياب الرأي الاختصاصي: الإعلام هو صناعة قبل أن يكون ممارسة، وهو علم قبل أن يكون فن، وهو رؤية قبل أن يكون مضمون، ومن يعمل في هذه الحملات الإعلامية والاتصالية مجتهدون - ويجب أن يشكروا على جهودهم - ولكن يفتقدون إلى الرؤية العلمية والرؤية الاختصاصية، التي تفكر إستراتيجيا في الأبعاد المختلفة لمضامين مثل هذه الحملة. وهذا ما شاهدناه جليا في حلقات «سيلفي» كمثال فقط في تحول بعض من رسائل تلك الحلقات إلى نتائج سلبية بشكل كارثي أحيانا، وضخت تلك الحلقات برمزيات مرئية كأنها صنعت صورا تستهوي فضول أصحاب ضعاف النفوس من الجنسين من شباب وشابات. وبعض الحملات الإعلامية تأتي بنتائج عكس الأهداف المخطط لها. ولهذا فإن كل رسالة (خبرية أو درامية أو ثقافية) يجب أن تقييم قبل إطلاقها لمعرفة أصداء تلك الرسالة على مختلف الشرائح المعنية في المجتمع. وربما تكون أحد أبرز المشاكل التي عانى منها «سيلفي» تفريغ داعش من محتواها الإقليمي وسحبها إلى البساط السعودي وربط مدن وأحياء وأشخاص ومواقف سعودية بداعش وكأن داعش أصبحت صناعة سعودية صرفة. وتم في «سيلفي» تغليب الطابع الكوميدي على الهدف الإستراتيجي للمواجهة مع داعش. وهنا لا نستطيع أن نفصل كثيرا عن «سيلفي» حتى لا تتعمق النتائج السلبية.
* غياب رؤية عن الجمهور المستهدف: كثير من الرسائل الخبرية أو الدرامية أو الثقافية يغيب عنها تحديد الجمهور المستهدف من تلك الرسائل، فتارة داعش ذاتها مستهدفة، وتارة رؤوس الفتنة المحرضين للفكر الداعشي، وتارة الشباب الذي يقع تحت تأثير فكر داعش، وتارة الشباب بشكل عام، وتارة الأسرة، وتارة المجتمع السعودي، وتارات أخرى المجتمع الخليجي أو العربي أو الإسلامي. وكلما تكون الرسالة الإعلامية موجهة إلى شرائح متعددة ومتباينة يكون تأثير الرسالة ضعيفا ونتائجها محدودة.
* غياب الفكرة البديلة: على الرغم من وجود جهود كبيرة من مختلف الشرائح والوسائل التي تعمل لمواجهة الفكر الداعشي، إلا أننا نظل في مختلف هذه الجهود كردة فعل فقط، ولم نسمع عن أفعال تم بناؤها أو صناعتها ابتداء كفكرة أو فكر بديل للفكر الذي يضخه داعش كل يوم عبر مختلف الوسائل. وهنا نحتاج إلى عقول مركزية تفكر بأفكار ومبادرات نوعية في هذا الاتجاه !!!..
* إن الإستراتيجية التي توظفها داعش واضحة للعيان، فلديها فكر ورثته من القاعدة، واستثمرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تستهدف برسائلها الجمهور على العموم، ولكنها تتواصل بشكل شخصي مع كل فرد من الافراد المنضمين لها. وشكلت حولها خلايا تساند فكرها وتدعم توجهها، وتجند الموالين لها. وقد نجحت هذه الإستراتيجية إلى الآن، وخاصة في ظل غياب إستراتيجيات دولية لمواجهة فكر داعش وتضليله واستلابه عقول بعض الشباب العربي والإسلامي والغربي.
إن المواجهة مع داعش هي مواجهة طويلة الأمد، ونحن من نساعد على إطالتها دون قصد. ومعروف أن هكذا فكر امتد إلى وقت طويل في صناعته ورعايته وتنميته في عقول أنصارهم، وفي المقابل فإن اجتثاث فكرهم من عقول شرائح معينة في المجتمع يحتاج إلى وقت طويل نسبيا، وخاصة في ظل غياب رؤية علمية متخصصة في الحملات الإعلامية والاتصالية لمواجهة هذا التنظيم.