سعد البواردي
50 صفحة من القطع المتوسط
حمد حميد الرشيدي
بين الروح أي المضمون والمحتوى.. وبين الجسد الأداة والسبب أخذنا شاعرنا في نقلة سريعة معه نتشرف من خلالها وقع قلمه وهو يعبر الدرب إلى حيث حُلمه أو علمه.. أو ذكرياته.. بداية بها في ذكرى اليوم الوطني لوطننا الغالي حيث يقول:
جاء سبتمبر يروي الذكريات
وأحاديث الفتوح الخالدات
وحكى عن وطن خاض الوغى
عزمه دون بلوغ المكرمات
جاء يطويالجيد مشتاقا لها
ويحث المسير من أقصى الجهات
دع الجهات مفتوحة ومشرعة يا عزيزي.. الأنسب من كل الجهات دون إقصاء.. هكذا رسم الطريق وحدد المواقع.. وعدّد الأبطال الذين تنادوا مع البطل الباني والموحد الملك عبدالعزيز يرحمه الله.
معه ستون شهماً كلهم
في الملحمات صناديد ثقات
أقسموا بالله أن لا ينثنوا
دونها إما حياة أو ممات
وكانت الحياة في وطن كبير وعزيز موحد قواعده راسخة.. وقوته واحدة لا تنكسر.. ولا تنثني.. وعن لبنان ما قبل الجرح وما بعده كانت له تغريدة:
لبنان يا ريحانة الشرق الندية
وهبوب نسمته الندية
طابت جراحك يا جريح العرب من عشرين عاما
وشفيت أوجاع الأرامل واليتامى
ومقابر الشهداء خضر كالمروج
عزيزي الرشيدي.. ما برح لبنان يعاني من جرح.. لم يبرأ بعد.. الصراعات من داخله ومن خارجه تهش جسده الربيعي الغض.. كأن رئة نتنفس بها استكثروها علينا..
أبيات رثائية في الطفل الفلسطيني محمد الدرة تقول:
بعصر الهاون. والصاروخ. والذرة يجيء محمد الدرة
صبي أعزل غر. بريء كانتفاضة عصره الحجري
وإن وصفوه بالغجري
المشهد على أرض فلسطين.. تغتاله رصاصة إسرائيلية وهو يحتمي بجسد والده.. يسقط شهيداً. وعلى فمه صرخة وجع.. وصوت تحد.. إنها فلسطين أيها الأوغاد الدخلاء.
ألف درة ودرة استبيح دمهم في فلسطين وما زالت ترزح تحت قيد الاحتلال.. حالها ليس أفضل حالا من عالمنا العربي المنكوب بأهله وبأعدائه في العراق. وسوريا. وليبيا. واليمن. حيث الملايين ما بين قتيل. وجريح. ومشرد وهارب في قوارب الموت ابتلعته حيتان البحر دون أن يحس به أحد.
أتجاوز مع شاعرنا الرشيدي بعضاً من قصائد المناسبات لصالح أخرى تستحق الوقوف عندها.. بداية من معلقته على جدار الريح.
أوصد الباب يا صاحبي. وجميع النوافذ من حولنا
إنها لريح قادمة تستبيح الحمى
وتذر بأعيننا ملح هذا التراب الذي ضمنا
شاعرنا يكره الريح.. وبالذات حين تباغته على حين غرة دون أن يحسب لها حساباً.. فتنزع عنه غطاءه ووطاءه.. وكشف المستور.. إنه يخشى تلك الريح التي تكشف الفضائح التي نسترها أمام عيون غيرنا دون أن نحسب حساباً لضمائرنا وتأنيبها.
هكذا الريح يا صاحبي كلما هبت اجتاحنا هجسها
ليثير بنا عقدة الخوف من آدميتنا..
ويتساءل في النهاية:
أي شيء نكون إذا؟!
الجواب: أشباه شياطين يخشون الفضيحة دون هوية.. ودون ملامح ثابتة لا تخشى هبة الريح لأن الروح فيها مجروحة.
ماذا نسي الأعشى.. واحدة من أجمل قصائده.. اجتزئ منها بعضاً من دلالاتها الحزينة:
ملايين الذين أحبهم كانوا سواسية بلا قلب
كأسنان الذئاب الكاشرات لنا بلا ذنب
تسادينا. إذا ما الفرق بين الكره والحب؟!
الفوارق تلاشت.. حين يفتقد الحب تتحول الكائنات إلى وحوش ضارية. ضاربة في أدغالها بلا قلب..
يعيدنا شاعرنا المتجلي إلى بعض ملامح من مشاهد الماضي الذي نتذكره.. ونتأسى عليه:
شهود عياننا ماتوا.. وما ماتت قضيتنا
وما كل الذي قد فات مات.. وما نسيناه
فنحن لنا مع التاريخ ثارات مهادنة
وإرث ليس تحجره الموصيات وهامات معاندة
ووجه لا تموهه الحضارات على كسرى وقيصر
ويسترسل قائلاً عن ذكريات الماضي
نحب الناس حين يحبنا الناس. ونسخر من ضغائنهم
واعرابنا لا يعتريه بعقدة البغضاء وسواس
ويحتطب الأماني الغرمن صحراء وحدته بلا يأس..
في كل حقبة تاريخية صحوة.. وغفوة.. وعلى وقع الوجع يأتي الاستذكار والاستنكار، ومن ثم الوقوف على المقدمين من جديد.
شاعرنا الرشيدي كتب عن الهجر والوصال.. عن التمرد والطاعة في ميدان العشق والوله.. قال عن ذلك الوجه الذي يستدير في اتجاه الشمال:
ذات مرة.. جئت يا أحلى اشتياقي وأمرَّه
جئت مثل الغيم. مثل الليل. مثل الحلم
كنت لا أدري شمالاً أم جنوبا
كنت أم كنت شروقاً أم غروبا
استوت كل الجهات الأربع في دروبي
أخذه التيه. تملكته الحيرة. تساوت في دربه الاتجاهات.. واختلطت في أدبياته الكلمات.. لم يخطئ كي يعتذر.. وإنما يعترف.
ليس ذنبي أن تكوني كل شيء في حياتي.. أو مماتي
فاذكريني.. واعرفيني..
إنني ذاك الشمالي الذي تهفو إليه «البوصلة»
على سفوح الذاكرة شاعرنا يتذكر:
ذكراك يا وعود غدي
ويا غيي.. ويا رشيدي
وبت أصارع الشكوى
نديم الحزن والكمد
تمر شوارد الأحلام
في عينيّ كالرمد
وتطويني من الذكرى
فلول أفحمت أمدي
والنهاية مجرد شكوى مرة مقرونة بتعاسة عاشق ما زال يسترجع.. ويرجّع لحن حب أفلت شمسه ذات يوم..
أخيراً.. لجأ شاعرنا حمد حميد الرشيدي في ديوانه أبجديات الروح والجسد.. لجأ إلى محاكاة رهين المحبسين أبي العلاء المعري في لزوميته ولكن بشكل كاريكاتيري مرح..
يقول عن السوق في لزوميته الأولى:
عذراً فما لي بهذا السوق من حاجة
حتى أزاحم في الحاجات أفواجه
هذا يبيع وذا يشري وذاك بلا
شيء سوى مكثر للناس إزعاجه
وذا يلح بتربح لسلعته
مستفزا نافخا للناس أوداجه
وفي لزوميته الثانية الأرض
تعبت وهذي الأرض ما هدّها التعب
ولا همّها ماء ولا دم انثعب
تشعبت منها في ثلاثين شعبة
كأن لم يكن غيري بها انبت وانشعب
فمالي والدنيا شدو طيورها
إذا كنت أشقى من غراب بها تعب
ولزوميته الثالثة عن العيد:
عدت يا عيد كل عام بخير
وكستني لقياك ثوباً جديدا
وحمدت الذي أمدّ وأبقى
لي حياة منه. وعمراً مديدا
وأراني سبحانه وتعالى
منّة لا تحصى وفضلاً عديدا
وأخيراً عن السيجارة لزوميته الأخيرة:
أتراني مكلفاً بالسيجاره؟!
أم تراها لي صفقة من تجاره
ما الذي أبتغيه منها وصدري
فيه منها صال يشبّ وجاره
وسعال وحشرجات كأني
لم أكن غير ورشة لنجاره
انتهى المطاف بقطاف لذيذ لشاعر متمكن كان رشيداً في طرحه.. ودون تكلف.