لبنى الخميس
نكبر وفي داخلنا طفل صغير، جامح وطموح، يؤمن بأنه سيغير العالم، ويملأ فضاء الكون بأفكاره ويجعله مكاناً أفضل، حتى يهمس له فرد غاضب ومحبط: «أنت مصدِّق نفسك؟» أو يثبط عزيمته مجتمع يخاف التغيير.. ويخشى من الجديد، فتتحطم أمانيه، وتتحول إلى أماني مبعثرة ومكررة حد الملل: بيت، سيارة، وظيفة آمنة، زواج. هؤلاء يمثلون النسبة الكبرى من البشر، أما الاستثنائيون فلا يزيدهم تشكيك الآخرين بأفكارهم إلا يقيناً، ولا تملؤهم سلبية محيطهم إلا إيجابية وعزيمة على امتطاء أحلامهم مهما بدت مهيبة وكبيرة.. فكما يقول المثل: «إذا لم تخفك أحلامك.. فهي ليست كبيرة كفاية».
ولنا في التاريخ عبرة، حين روى لنا نجاحات وإبداعات عديدة.. لم يكن التأييد حليفها، ولا القبول قدرها، لكنها أثبتت نفسها بنفسها، ومضت نحو وجهتها بيقين وثقة، حتى وقف العالم مصفقاً ومهئناً هذا النجاح.
ثلاث قصص ستؤكد لكم أن اعتراض الآخرين على آرائنا، وعدم إيمانهم ودعمهم لأفكارنا، لا يعني أبداً أنها فاشلة وغير قابلة للتحقيق.. بل بالعكس أحياناً.
القصة الأولى: موقع «فيس بوك»
في عام 2003 كان أقوى وأكثر مواقع الإنترنت تأثيرا هو موقع «ماي سبيس»، لدرجة أنه كان يشتري كل المواقع الصَّغيرة التي من الممكن أن تشكل منافسة لها، ويضمها إلى مجموعة مواقعه، وفي عام 2005 بدأ يصعد نجم موقع فيس لدرجة أنه بدأ يلفت انتباه شركة «ماي سبيس» فطلب رئيسها التنفيذي لقاءً مع مؤسس شركة فيس بوك مارك زيكربرغ للتوصل إلى صفقة لشراء الموقع، فطلب زكربرغ وقتها مبلغ 75 مليون دولار لشرائه، لكن الرئيس التنفيذي لماي سبيس رفض، معتقداً أن المبلغ المعروض مبالغ فيه فأنهى الاجتماع وألغى الصفقة. اليوم بعد 15 سنة، يقدر سعر موقع فيس بـ 17 مليار دولار.. ويضم تحته موقعي «واتس آب» و»انستغرام».. بينما تم بيع ماي سبيس بـ 35 مليون دولار فقط لإحدى شركات التسويق.. فسبحان الله.. لو دامت لغيرك ما وصلت لغيرك.
القصة الثانية: لامبرغيني
ذهب لامبرغيني الإيطالي إلى انزو فيراري صاحب شركة السيارات الشهيرة فيراري، ليخبره عن عدد من العيوب الفنية في سيارته.. فجاءت ردة فعله سريعة وغاضبة بعد أن جُرح كبرياؤه قائلاً: «سيد لامبرغيني، كونك فلاحاً فمن الممكن أن تقود جرارا زراعيا.. لكنك لن تستطيع قيادة سيارة فارهة مثل فيراري، فشعر لامبرغيني بالإهانة والاحتقار فقرر تصميم محركه الخاص الخالي من العيوب والشوائب. اليوم، تعتبر لامبرغيني من أغلى السيارات في العالم، وأشرس المنافسين لندّها فيراري.
القصة الثالثة: جامعة ستانفورد
قصة إنشاء جامعة ستانفورد تعتبر أغرب من الخيال.. ففي عام 1884 توقف زوجان في محطة قطار مدينة بوسطن قادمين من كاليفورنيا، فتوجها لمكتب إدارة جامعة هارفارد مطالبين بمقابلة رئيس الجامعة إليوت، ألقت السكرتيرة نظرة سريعة على ملابسهما القطنية المتواضعة وأشكالهم التي تشبه الفلاحين وقالت: الرئيس مشغول ولا يستطيع مقابلتكم الآن. فقالوا سننتظره حتى يفرغ، مرت ساعات طويلة دون أن يصيب الزوجان الملل من طول الانتظار، فرجت السكرتيرة رئيس الجامعة أن يوافق على أمل أن يرحلا بعد ذلك.. فوافق الرئيس تحت إلحاحها بمضض. دلفا المكتب وبادرا الرئيس بقولهما: ابننا كان يدرس عندكم قبل أن يفارق الحياة في حادث سير شنيع.. ولأنه كان في قمة سعادته في الجامعة قررنا التبرع للجامعة بإنشاء مبنى باسمه لنخلد ذكراه.. فجاوبهم المدير بنظرات احتقار متأملاً قميص الزوجة القطني المتواضع: لا يمكننا أن نخلد ذكرى كل من كان يدرس في هارفارد ثم توفي، وإلا لتحولت الجامعة لغابة من النصب التذكارية! ثم هل لديكم فكرة عن تكلفة بناء مبنى في الجامعة، إنها تتجاوز 7 ملايين دولار، وحين أدرك الرئيس أنه كسب الحوار، وبأنهم على وشك مغادرة المكتب، استدارت الزوجة على زوجها وأخبرته وسط ذهول رئيس الجامعة، سيد ليندا، مادامت هذه هي التكلفة، لماذا لا نبني جامعة كاملة تحمل اسم ابننا، فأجابها الزوج بعبارات التأكيد والموافقة. وعادا إلى كاليفورنيا ليؤسسا جامعتهما الخاصة، التي فتحت أبوابها مطلع العام الدراسي عام 1891 في ذكرى رحيل ابنهما.
اليوم ستانفورد غنية عن التعريف، إِذْ تعد من أعرق وأقوى جامعات العالم.. تخرج منها نخبة من المخترعين والممثلين ووجهاء المجتمع، بالإضافة إلى أكثر من أربعة وخمسين شخص فازوا بجائزة نوبل، ويُعدُّ السيلكون فالي من المشروعات إلى خرجت من رحمها.
أخيراً.. ليس كل ما يرفضه الناس سيئاً.. ومكانه سلسة النفايات.. بعض الأفكار قدرها أن يحاربها الآخرون لتكون عظيمة.. وتجعلنا أكثر قوة وعزيمة وصلابة لتحقيقها.. لو قبل زوكربرغ عرض ماي سبيس لما أصبح فيس بوك أعظم مواقع التواصل في التاريخ، ولو رحب فيراري بملاحظات لامبرغيني لأصبح الأخير مجرد مهندس في شركة فيراري، ولو وافق رئيس جامعة هارفارد على أخذ منحة الزوجان الريفيان لما أصبح لدينا اليوم إحدى أهم الجامعات في العالم.. الضربات التي لا تكسرنا تجعلنا أقوى.