د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
الإقدام على الخطأ وارتكاب الزلل في التعامل مع الآخرين طبيعة بشرية، لا يتصور أن تنفك عنهم، ويستحيل أن يخلو منها أحدٌ إلا من عَصمه الله، ولا إشكال في وقوع هذه التجاوزات في تعاملنا مع الآخرين، ومن طلب رفيقاً لا يخطئ سيعيش وحيداً، فأي الناس تصفو مشاربه؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ غير أن الإشكال في ذلك ما ينبغي أن يصدر من المخطئ بعد ذلك، حيث يحتاج إلى شجاعة كبرى كي يقدم اعتذاره وأسفه، طلباً لرضا الآخر ورغبة في مسامحته.
وإذا ذُكر الاعتذار فلا بد من استحضار أبرز الشعراء العرب الذين أبدعوا في التعامل مع هذا الغرض المهم، وتفننوا في صياغة صوره وأساليبه، رغم ما يكتنفه من حساسيات يجب أن تؤخذ في الحسبان، ونصه الشهير الذي اعتذر فيه للنعمان بن المنذر يمثل أهم النماذج التي تؤكد على أنَّ الاعتذار فن لا يجيده كل أحد، ولعل قراءة سريعة لهذا النص رغبة في كشف بعض جمالياته خير شاهد على أنه لا منافس للنابغة الذبياني في نظم حروف هذا الغرض ورسم صوره.
يقول النابغة:
أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصَبُ
فبت كأنَّ العائدات فرشن لي
هَرَاساً به يُعلى فِراشي ويُقشبُ
حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً
وليس وراء الله للمرءِ مذهبُ
لئن كنت قد بلغت عني وشايةً
لَمُبلِغُكَ الواشي أغشُّ وأكذبُ
ولكنني كنتُ امرأً ليَ جَانِبٌ
من الأرض فيهِ مُسترَادٌ ومَطلبُ
مُلوكٌ وإخوانٌ إذا ما أتيتُهم
أُحَكَّمُ في أموالهم وأُقَرَّبُ
كفعلِكَ في قومٍ أراكَ اصطفيتَهُم
فلم تَرَهُمْ في شكر ذلك أذنبوا
هذا هو النص الاعتذاري المتألق الذي أبدعه لنا شاعرُنا العربيُّ الجاهليُّ زياد بن معاوية المعروفُ بـ (النابغة الذبياني) شاعرِ الملك النعمان وجليسِه الذي ارتفع شأنه وأصبح من سادة ذبيان، وجلس محكماً بين الشعراء في سوق عكاظ، وكعادة الحساد الذين لا يطيقون رؤية الشاعر تعظم منزلته عند الملك فوشوا ونظموا على لسانه أبياتاً في هجائه، فغضب عليه النعمان وأهدر دمه، وهذا النص الذي معنا أحرف اعتذار وكلمات ثناء ومدح لهذا الملك العظيم، وعبارات دفاعٍ عن النفس وكشفٍ للحقيقة وإظهارٍ لكذب الوشاة وخيانتهم، وإعادة للأمور إلى نصابها، فكيف فعل شاعرنا ذلك؟ وهل وُفِّق في إيصال ما كان يريدُ إيصالَه إلى الملك؟ دعونا نرى..
يفتتح النابغة نصه المبدع بافتتاح يمهد فيه للموضوع الذي يريد أن يتحدث عنه، ويقدم فيه توطئةً لما يود أن يتكلم فيه، فهو في البداية يلقي على الملك التحية المعروفة التي يُخاطب بها سادات العرب آنذاك، تلك التي تتضمن دعاء للنعمان بحمايته من اللعن، وذلك تمهيداً لاستلطافه واعتذاره، ولذلك يخبره بأن أنباء الغضب قد أتته وأخبار اللوم قد وصلته، وهذه الأخبار والأنباء هي التي أصابته بالهموم الشديدة والمتاعب الكثيرة، وهي دلالة منذ البداية على أنَّ ما وصل إلى الملك من أخبار هي في الحقيقة عارية عن الصحة تماماً؛ لأنه من الطبعي أنَّ الذي سيهجو بالملك سيتوقع وصول ذلك الهجاء إليه، ومن ثم فهو لن يهتم ولن ينصب لأجل ذلك، أما أن يكشف الشاعر عن همه ونصبه وقلقه إلى الدرجة التي سيصفها لنا بعد ذلك فهذا لا يدع مجالاً للشك في أنَّ ما وصل الملك إنما هو من أعمال الوشاة الحاقدين.
ولذلك فالنابغة يكشف في البيت الثاني عن حجم هذا الهمّ الذي أصابه عن طريق تشبيهٍ بديعٍ وتصويرٍ رائع، حيث شبه ما أصابه من ألم الهموم وعذاب المتاعب جرَّاء سماعه لهذه الأنباء بالألم الذي يلاقيه من أشواكٍ حادَّةٍ مؤلمةٍ تفرشها له الزائرات اللاتي يزرنه وقت مرضه، فتزداد بذلك آلامه وأحزانه، ولاحظ أيها القارئ الكريم أنَّ العائدات الزائرات لا يأتينَ إلى المريض إلا لمساعدته على إزالة ما فيه من ألم وهمّ وغمّ، فكيف إذا كانت الآلام تأتي منهن وقد كان من المفترض أن يخففنّ على المريض بدلاً من ذلك؟ وكيف إذا كانت هذه الآلام بسبب أشواك توضع تحت جسم المريض فتكون له كالفراش يتقلب عليها يُمنة ويُسرة؟
وينتقل شاعرنا المبدع بعد ذلك إلى خطاب مباشر للملك النعمان يقطع فيه الشك باليقين، ويؤكد له أنَّ ما وصله من الوشاة إنما محض كذبٍ وافتراء، ويستخدم لذلك أقوى الأساليب قوةً وتأكيداً وهو القسم والحلف، فهو يحلف بالله العظيم الذي هو أعظم ما يُحلف به بأنه بريء من تلك الوشاية جملةً وتفصيلاً، وأنَّ من أوصلها إليك غاشٌّ كاذبٌ ومحتالٌ حاسدٌ لم يتحمل رؤيتي قريباً منك وأثيراً لديك.
ويكشف النابغة الذبياني بعد ذلك عن شخصيته التي تعشق الترحال وتحب الأسفار، فقد كانت الأرض لديه واسعة وفيها أمكنة كثيرة تستحق أن تُشدَّ الرحال إليها طلباً للرزق، ولذلك فقد رحل إلى الغساسنة الذين لقي لديهم الحظوة، ووجد عندهم الترحاب، فهم ملوكٌ في المنصب إخوانٌ في التعامل، فصِلته بهم كانت لأجل ذلك، ومن أبرز مظاهر هذه الحظوة وذلك الترحاب الذي وجده لديهم أنه إذا أتاهم قربوه من أنفسهم، وحكموه في أموالهم، وهذا يدل على حسن استقبالهم له، وشدة ثقتهم به، وكأنه يلمح إلى أنَّ شخصيته هذه هي الشخصية الحقيقة التي جعلته عند القبائل جميعها مُرحباً به في كل الأحوال، فكيف مَن هذا شأنه أن يُصَدَّق أنه يهجو ملكاً بحجم النعمان بن المنذر وهو الذي طالما جاد عليه وقرَّبه إليه!
ويشبه شاعرنا المتألق هذا الترحاب وذلك التقريب الذي يلقاه الشاعر من هؤلاء الملوك الذين رحل إليهم بذلك الترحاب الذي يلقاه أعوانك ورجالك أنت أيها الملك النعمان، أولئك الذين اصطفيتهم واخترتهم وقربتهم وغمرتهم بمعروفك، فيشكرونك ويدينون بالفضل لك، ورغم هذا فهذا الفعل منهم لا يمكن أن يُعدَّ ذنباً منهم، لأنهم قابلوا إحسانك وفضلك بالشكر والثناء، وكأنه يلمح هنا إلى عدم وجود ملامةٍ عليه حين يقوم بشكر الغساسنة الذين أكرموه وقرّبوه ورحبوا به على الرغم من أنهم كانوا حينذاك أعداء للملك النعمان، ولكنَّ الشاعر يرى أنَّ شكر الإحسان ينبغي أن يتفوق على كل عداوة، في إيحاء جميل بالتسامح والسلام والدعوة إلى إعلاء قيم الشكر وردّ المعروف والاعتراف بالجميل على كل شيء آخر.
لقد استخدم النابغة الذبياني أروع الكلمات وأرق الأساليب في تقديم هذا الاعتذار الذي لم يكن في الحقيقة عن ذنب فعله، ولا جريمة ارتكبها، بل كان لتصويب الأفهام، وتصحيح الأوهام، وكشف الحقائق والملابسات الأحداث التي أحاطت بهذه الحادثة التي أرقته وشغلته فجعلته لا يعرف للنوم طعماً، ولا للراحة شكلاً، بل كانت لياليه حينها هموماً وآلاماً، وكان كمن يوضع تحت جسده الشوك وهو مستلقٍ على فراشه فيتقلب عليه طوال الليل وهو يئن من الألم في كل لحظة.
لم يكن هذا المشهد هو الوحيد الذي أسس هذا النص الاعتذاري، ولم يكن النابغة ليكتفي بهذه الأبيات وتلك الأحرف ليقدم اعتذاره إلى ملك المناذرة: النعمانِ بنِ المنذر، ولم تكن هذه التصريحات والتلميحات لتشفع له أمام هذا الملك العظيم؛ لأنه كان يعلم أنَّ القضية والحدث أكبرُ من أن يكفيها هذا المشهد فحسب، لذا كان لا بد أن يكون للنص بقية، وللمشاهد تتمة، وما زال في فكر شاعرنا الكثير.. لأنه عانى الكثير.. فماذا بقي للنابغة أن يقول؟ وكيف سيقول؟ هذا ما سيفصح عنه القسم الثاني من هذه الوقفات.