علي الصراف
ثمة أسس بنيوية تجعل من المستحيل الفصل بين «إيران الدولة» و»إيران المشروع الطائفي». فالتكوين القومي الذي يشكل الفسيفساء الإيرانية، إنما تم التغلب عليه بتكوين طائفي تم فرضه بالقهر والقسوة والعنف.
غلبة المشروع الطائفي في إيران على المشاريع القومية المحلية هو قضية صراع وجودي تخوضها إيران كل يوم منذ خمسة قرون على الأقل. وهذا هو أحد أهم أسباب التوتر الداخلي الدائم في إيران. فهذا بلد وضع نفسه في المقلاة، وظل يلطم.
فالمشروع الطائفي إذا كان هو أساس الاعتقاد بوحدة إيران وبهوية دولتها، فإنه في الوقت نفسه أساس عذاباتها مع نفسها بالذات. من ناحية، لأنه يجعلها عاجزة عن بناء دولة ذات تطلعات حديثة. ومن ناحية أخرى، لأنه يعيد تذكيرها بالمجازر الوحشية التي ارتكبتها ضد كل الأقليات التي انبت تلك الوحدة على جماجمها. وهذه هوّة تتسع كل يوم بين «دولة المشروع» وشعبها، وبينها وبين دول العالم بأسره.
الفرس هم أكبر الأقليات في إيران. ولكنهم في نهاية المطاف أقلية حيال تلك الفسيفساء القومية التي تضم البلوش والأذريين والتركمان والأكراد والعرب وغيرهم. وكان المشروع الطائفي (الفارسي ضمناً) هو السبيل الوحيد الذي عرفته الدولة الإيرانية لكي تعرف نفسها ككيان، منذ إسماعيل شاه الصفوي حتى الآن. وهذا ما يجعل المشروع الطائفي هو جوهر الوجود بالنسبة للدولة الإيرانية. وبالأحرى، فلا وجود لشيء اسمه دولة في إيران. هذا مجرد وهم هيكلي، لا أكثر ولا أقل.
لقد حاولت الأسرة البهلوية أن تبني دولة، وأن تخرج بها إلى العالم المتحضر كدولة حديثة. إلا أن المشروع الطائفي نخرها، وأطاح بها في نهاية المطاف، ليعلو «آيات الله» على سطح المستنقع الطائفي الذي لم يتمكن مشروع التحديث البهلوي من تجفيفه أو الحد من نفوذه. إذن، نحن أمام كيان لا هوية له، إلا تلك الهوية الوحيدة التي يعرفها عن نفسه.
والأمر لا يتعلّق بحقيقة أن الدولة لم تنشأ، بل إنه يتعلق بحقيقة أنه لم تتوفر لها أسس لتنشأ أصلاً. وفي المقابل، فإنه يتعلّق بمشروع يعتقد أصحابه أنه لا يمكن أن يعيش، في إيران ذاتها، إلا إذا توسع وتمدد في خارجها.
لهذا السبب فإن صدى الكلمات له معنى عميق عندما يعتبر المسؤولون الإيرانيون أن الدفاع عن مجالات نفوذهم في الخارج لا يقل أهمية عن الدفاع عن أي محافظة إيرانية.
هذا كلام صادق ومعبّر على نحو استثنائي. ويجب فهمه انطلاقاً من طبيعة «دولة المشروع» التي تشعر أنها سوف تنهار في الداخل، إذا لم تحافظ على ما تكسبه في الخارج.
والدولة إذا كانت عاقلة بطبيعتها، فإن دولة المشروع (أي مشروع) هي بالأحرى دولة عقل مغلق. أما دولة المشروع الطائفي فإنها دولة هستيريا ومجانين، ولا سبيل لعقلنتها، كما لا سبيل للتفاهم معها. قد يمكن التعايش مع الجنون، ولكن لا يمكن عقد تسويات معه. السبيل الوحيد لمواجهته هو التضييق عليه، والتضييق عليه، حتى ينتحر بجنونه. هناك في الوقت نفسه هويات أخرى، منها ما هو قائم، ومنها ما ينشأ. وإذا كان ثمة أمل بالمستقبل فإنه يكمن في دعم تلك الهويات ومساندة تطلعاتها للخروج من المستنقع.