د. فوزية البكر
لا أعرف لماذا نفترض ضمن ثقافتنا المحلية أن الطبائع التي ولد الإنسان بها هي ما يحدد إذا كان شخصاً هادئاً لديه القدرة على تحمُّل المواقف وإدارتها عند الشدائد، في حين يُولد شخص آخر وفي الغالب (رجل) بمزاج عصبي، فهو سريع الغضب ويسهل استفزازه!.. والمقابل الثقافي لذلك: الشكوى لله: هو كذا!
لا أنكر أن شوارع بعض مدننا تقود فعلاً إلى العصبية وبخاصة في مدينة مثل الرياض التي تلتهب حراً وزحاماً مع كل هذه الإصلاحات التي فتحت بطون شوارعها بسبب مشروع مترو الأنفاق، بحيث أضحى من المألوف أن ترى السيارات التي اصطدمت في بعضها البعض، وما يتبع ذلك في العادة من عراك وشجار وسب علني، خصوصاً ضد السائقين الأجانب (ونلحظ نحن النساء ذلك أكثر لأنه يقع في الغالب على سائقينا)؟
وفي المدارس ترتفع نسبة الشجارات بين الطلاب ومنذ مرحلة الروضة، وفي العادة تفترض المدارس أن ما نسميه في التربية بالتنمُّر أو يُسمى أحياناً الاستئساد، أي أن يستقوي طالب ضد طالب آخر، ربما بسبب صغر حجمه أو سنه أو لونه أو غير ذلك من الفروقات التي توجد بين البشر، إنما يحدث كجزء من نمو الأطفال الطبيعي الذي يتعلمون كيف يوجهونه بمزيد من العدوانية تجاه الآخرين حتى يتمكنوا من حماية أنفسهم. موضوع التنمُّر لم يعد جديداً هذه الأيام في السعودية، بعد أن بدأت الدراسات الجامعية تطرقه على استحياء في مؤسساتنا التعليمية، رغم أن الدراسات فيه كانت بدأت منذ القرن الماضي في كثير من البلدان بما فيها اليابان وأستراليا وكندا، وبالطبع الولايات المتحدة.
موضوع التنمُّر أو حتى العنف الفعلي الذي قد يُؤدي إلى القتل حقيقة موجودة في حياتنا العامة والمدرسية، وليس ببعيد عنا ما حدث قبل فترة بين طلاب إحدى الثانويات في تربة حيث تعارك 17 طالباً بين بعضهم البعض إلى الدرجة التي أدخلت ثلاثة منهم إلى المستشفى!.
بالطبع العنف كما أسلفنا ظاهرة معروفة في كل مدارس العالم حتى أكثرها تقدماً إلى الحد الذي اضطرت فيه بعض المدارس في الولايات المتحدة الآن إلى وضع أجهزة تفتيش مثل المطارات خشية إدخال الأسلحة إلى المدارس!.
لكن الفكرة هي أن المؤسسات هناك تعترف بظاهرة العنف وتعمل على تدريب أفرادها وطلابها لمواجهة عنفهم أو غضبهم عن طريق ما يُسمى بأساليب حل المنازعات الذي تقوم فكرته على مساعدة الناس لتفهُّم اختلافاتهم وتقبُّل التنوع في هذه الاختلافات، وفي طرق التعبير عنها بدون عنف مع تعلُّم المهارات الأساسية لهذه التقنيات التي تُدرَّس في الغرب وهناك أقسام جامعية للتدرُّب عليها، كما توجد مئات المواقع التي تعمل على نشر فكرة حل المنازعات في الوقت الذي يفتقر المحتوى العربي لأي شيء عنه، وما هذا إلا انعكاس لطبيعة الثقافة الذكورية والتسلطية في علاقات الأفراد والتي تجعل الحديث عن السلام ضرباً من الخيال!.
لكننا اليوم لا نملك الخيار، فعالمنا الشرقي يزخر بكمية من العنف والتوتر الذي حوَّل قلقنا البسيط البدائي من التعرض للأذى إلى حقيقة يومية ملموسة نكاد نعيشها للأسف كل يوم بعد كل هذا العنف المنظم الذي تنشره داعش وأمثالها من المنظمات المدمرة.
ولعل مما يُشجعنا على ذلك أن هناك عملاً جماعياً من القيادات العليا اليوم يحثنا على تعلُّم حل نزاعاتنا بسلام، فالمادة الثامنة من إعلان حقوق الإنسان لدول مجلس التعاون الخليجي قد نصت على:
«تعمل الدولة والمجتمع على نشر وإشاعة مبادئ الخير والمحبة والإخاء والتسامح وغيرها من المبادئ والقيم النبيلة، علاوة على نبذ جميع مشاعر الكراهية والبغضاء والتطرف، وأي مظاهر أخرى من شأنها تقويض المقومات الأساسية للمجتمع وتعريضه للخطر».
وتماشياً مع هذا، تأتي فكرة تعليم الناس كباراً وصغاراً الطرق التي يمكن أن تساعدهم على تفهُّم أسباب غضبهم وحلها بالطرق السلمية، حيث أوضحت هيئة حقوق الإنسان السعودية مثلاً أن العنف على المرأة والأطفال والخدم هو الأكثر انتشاراً، وأن أكثر الشكاوى التي تصل لهم هي بسبب العنف الزوجي من الرجل، إما على زوجته أو زوجاته وأبنائه الذين يضطرون دائماً للعيش تحت رحمة المستبد، إما خوفاً من الفضيحة الاجتماعية، أو لعدم وجود بدائل وعدم وجود مؤسسات اجتماعية داعمة تساعدهم على معرفة أين يذهبون وكيف يتصرفون في حال تعرضوا للعنف.
ورغم أهمية ذلك، إلا أنه مهم جداً أن يفهم الإنسان غضبه ويكون قادراً على إدارة هذا الغضب بمنطقية وهدوء يحسن أساليب حياته وحياة من حوله بما يساعد على تحقيق حياة أفضل للجميع، ويحمي المجتمع من صراعات وإحباطات تُؤدي ببعض شبابه، إما إلى الاكتئاب أو المخدرات أو الجريمة أو الانضمام إلى أحد هذه الأجنحة الدينية المتطرفة، اعتقاداً منهم أنهم يخدمون دينهم، وهم لا يعرفون أن أحد الأسباب التي تجعلهم يقبلون بكمية العنف المروّعة التي تضج بها هذه التنظيمات، هو كمية الغضب والإحباط الذاتي الذي يعيشونه أو بفعل ما قد تعرضوا له من تنمُّر وإيذاء لفظي أو جسدي أو جنسي، مما يدفعهم لتقبُّل العنف كوسيلة مشروعة للتعامل مع النفس والعالم، وهو ما يهدد السلام وقيم الأمن في المجتمعات كما يحدث الآن.
فكرة تعليم الناس وبخاصة الطلاب تقبُّل اختلافاتهم وحل نزاعاتهم بطرق سلمية أمر أساس، ولم يعد خياراً وكم أتمنى من د.عزام أن يشاركنا النقاش حول ذلك رغم علمي بكثرة القضايا المطروحة على طاولته اليوم، لكن برامج تعليم حل النزاعات في المدارس والجامعات ضرورة قصوى يفرضها كل هذا العنف الذي يهدد منطقتنا اليوم، بما يحتم ضرورة تبني برامج عالمية تُدرَّس لكل طفل، فلعل وعسى أن يبدأ كل منهم في تلمُّس المحبة والخير في داخله، ثم ينشره حوله.