د.محمد الشويعر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وبعد:
إن هذه المادة (أمِنَ) ومشتقاتها، قد جاءت في كتاب الله جل وعلا، أكثر من ثمانمائة (800) مرة، مماّ يبرهن على المكانة في الدلالة، والحرص على العمل، ولما يوليه الإسلام من عناية، في التوجيه للنفوس البشرية، وما فيه من مصالح فردية، وجماعية. يُنظر: المعجم الوسيط في اللغة.
ولما كانت هذه المادة - كما جاءت في المعاجم العربية - لها اشتقاقات كثيرة منها: أمن أمانة وكان أميناً، وأمن إيماناً صار ذا أمن، وآمن به وثق به وصدّقه، وأمّن فلاناً: جعله يأمن, إلى غير ذلك من الاشتقاقات، التي تعطي راحة للنفوس, وطمأنينة للمجتمعات.
فإن الأمن الذي تبحث عنه المجتمعات المسلمة وغيرها، وتحتاج إليه الأمم: أفراداً وجماعات، سواء في حياة البشر الدنيوية، وهي عاجل أمرهم، أو في اطمئنانهم على مصيرهم بعد وفاتهم، وهي آجل أمرهم، فإن هذا المقياس تخاطب به أهل الإسلام، المؤمنون بالله، المدركون لما يجمع بين الإيمان والأمان والقاسم المشترك بينهما.
ذلك أن ما يدور حول هاتين الحالتين: ما هو إلا جزء من مشتقات (أمن) التي توسع فيها اللغويون، ويدور على محورها ارتياح النفس، واطمئنان القلب، وينتج عن ذلك سلامة الأمة، التي تحرص تعاليم الإسلام عليها في مثل هذه المقولة، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، في استفهامه صلى الله عليه وسلم، التقريري الموجه للصحابة: أيّ يوم هذا؟ وأيّ بلد هذا؟ وأيّ شهر هذا؟
فظنوا أنه سيسميّها بأسماء غير أسمائها، فقالوا: الله ورسوله أعلم.
ثم لما أخبرهم بأسمائها المعهودة عندهم، قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا). صحيح مسلم، وهذا من تأكيد الأمن المقرون بعقيدة الإيمان.
ففي شئون الحياة المختلفة، نجد أهمية تلك الاشتقاقات، بعد الأمان العقديّ، الذي هو عقيدة مهمة في الرابطة مع الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه العقيدة التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام، وسؤاله رسول الله, ثم هو يصدّقه: وجاء فيه ما يدل على أن ركائز هذا الدين: ثلاثة أمور: الإسلام بأركانه الخمسة، والإيمان بأركانه الستة: أن تؤمن بالله، وبملائكته وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
وثالثها: الإحسان وهو ركن واحد أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا من أمكن الإيمان بين العبد وربه، ومرتبته التقوى، التي هي مراقبة الله في السّر والعلن.
وهذه الركائز التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، جاء بها أنبياء الله كلّهم لأممهم؛ ليكون امتثالها إيماناً راسخاً، وتصديقاً كاملاً, لا شك فيه, ولا تفريق بين الرسل, أو بين الملائكة، أو بين الكتب المنزلة من عند الله، إلا ما أخبرنا الله في كتابه العزيز به، أنه قد دخله التحريف والكذب، من أهل الكتاب، والتفريق بين أركان الإيمان، وركائز دين الله الحق، ينقض عُرى الإيمان، وهو الذي تحدث به الفرقة.
وقد عرّف العلماء هذا الإيمان: بأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان - وهو القلب - وعمل بالأركان وهي الجوارح.
بمعنى: أن القول لا بُد أن يصدقه العمل، وتصاحبه النّية المخلصة، فإذا تمكن هذا الإيمان, ورسخ في القلب، الذي هو عليه محور الأعمال، وهي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, كما في الحديث, ويسمونه ملك الجوارح؛ لأنه يتحكم فيها، وفي أعمالها، وما ذلك إلا أن دين الله الذي بعث به الرسل واحد، في الحث على أهم الأمور: عبادة الله وحده.
وبنْتُ نبي الله شعيب عليه السلام، وصفت لأبيها مساعدة موسى لها في سقيا أغنامها، بأوجز الصفات وأشرفها: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) سورة القصص، الآية 26.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. ينظر: أسد الغابة لابن الأثير.
ومن كان بهذه الصفة، من التزكية بالأمين، فلا شك أن الإيمان العقيدة، متمكنة من بقية أعماله.. ومن تمكنت منه عقيدة الإيمان أمنّه الله على أموالهم وأعراضهم، وأسرارهم.
ويرتبط بذلك بقية الأعمال التي تحتاج إلى الأمان والطمأنينة، وبالثبات عليه يؤمنه سبحانه من عذابه، وقد سُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل النبوة بالأمين، فصاروا يأتمنونه على كل شيء، وصادق ملك الروم على هذا اللقب, وقال: ما كان ليصدق معكم ويكذب على الله، وهذا بعدما بُعث وكذبوه.
ومن كان مؤمناً عقيدة, فإن الناس يأتمنونه على شؤونهم ولو خالفوه في بعض الأمر، حتى يرسخ المدلول في أمور جدّت في مؤخر الأيام في حياة البشر.
- كالأمن الصحي الذي به سلامة الجسم من الأمراض والعاهات.
- والأمن النفسي: الذي به الراحة والطمأنينة، وعدم الخوف في الفرد وفي المجتمع.
- والأمن الغذائي، الذي لا تهدأ النفوس، ولا تستقيم المجتمعات إلا بتوفر الأغذية والاحتياجات الضرورية؛ ولذا جاء التحذير عند الأزمات، من احتكار الأقوات، والتضييق على الناس؛ لإخلاله بناحية من نواحي الحياة الضرورية.
- والأمن الاقتصادي، الذي به انتعاش المجتمعات؛ لأن رأس المال كما يقولون: جبان لا ينتعش إلا بالأمن.
- والأمن الأخلاقي الذي هو من مستلزمات الرّاحة والاطمئنان على الأعراض من الانتهاك، والأنساب من الاختلاط وغيرها من الأعمال، التي ترتبط بالأمن في المجالات المختلفة.
ولأن الخلل بأي نوع من أنواع الأمن، الذي تتعهد الحكومات بحمايته؛ لسلامة مواطنيها، بحيث اهتمت به، وأنشأت لذلك أجهزة برجالها وعتادها، سُميت قوة الأمن، ويسهر رجالها على توفير الأمن بأشكاله عن التعديات والإضرار، والإخلال بأي جانب من جوانب الأمن، وفي المقدمة الأمن في مكافحة الجريمة والمخدّرات، والإجرام بأشكالها وأنواعها؛ لأن الانتزاع، والتهاون بالأمن, يفتح باب شر في المجتمعات التي لا تستقيم الأمور بدون أمن قوي يردع المتهاون، ويقمع الإرهاب، وبه ينكمش الفساد وتجف منابع الجريمة، مع الوازع القوي، كما يروى عن الخليفة الراشد الثالث: عثمان بن عفان، رضي الله عنه في قوله: (يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
ويقوى هذا الوازع مع قوة الإيمان العقدي في المجتمع؛ لأن كلّ ما نبع من عقيدة دينية شرعية، فإنه سيبقى حارساً أميناً، يوجه القلوب والجوارح لكل خير.
ويُعد فكر الإرهاب الذي أحدث فساداً وخروجاً عن الجماعة، ناتج عن سوء فهم لمكانة الأمانة، ودلالتها، التي تبرأت منها السموات والأرض والجبال، وادعى الإنسان أنه يقوى على تحمُّلها, فندب نفسه لحملها، جاهلاً لمكانتها عند الله، كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} سورة الأحزاب، الآية 72.
ولجهل الضّالين - حسب فكرهم المنحرف - بمكانة هذه الأمانة, فقد أثاروا بلبلة في المجتمعات، وغرروا بالأبرياء، وأحدثوا ضوضاء بدون هدف بيّن، ولا مطلب متعيّن، وأفتوا بغير ما أنزل الله.
ذلك أن القلب الذي ضعف فيه الوازع الديني، يصبح كالبيت الخرب، إذا أُصلِحَ فيه جانب، تعطل جانب آخر.
فعوامل الأمن في الجوانب الاجتماعية كلها، التي مرّ بعضها والتي لم يمر البعض الآخر، بأجمعها لا تتحقق على الوجه المطلوب، بدون الإيمان العقدي الذي يضرب سياجاً أمنياً على الإنسان في جميع تصرفاته، وهو من مستلزمات الرّاحة والاطمئنان في الفرد والجماعة.
ولا تستقيم هذه الأمور مع الفكر الضال، الذي هتك ستر الأمن لضعف الوازع الإيماني، فنشأ عن ذلك فكر الإرهاب والإفساد، الذي لا هدف له، ولا وطن معروف، وشق عصا الجماعة والخروج على ولاة الأمور، وقتل الأبرياء، وتخويف الآمنين.. بدون هدف معيّن، ولا قيادة تأخذ وتعطي، وإنما تهديدات وتصرفات عنجهية يحتار فيها الحليم، ولا مطالب ذات أهمية في الأمور الشرعية.
كما قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا