قاسم حول
أقف هنا عند رحيل الناقد والباحث العراقي «محمد الجزائري» الذي وافاه الأجل في بلجيكا بعد عامين من وصوله إليها. ومحمد الجزائري له من المؤلفات الثقافية والبحوث النقدية لعل أهمها «ويكون التجاوز»، و«المندائيون الصابئة» و«حين تقاوم الكلمة»، و«الكتابة على أديم الفرات»،
وجدل الرؤية والتسجيل في الرواية العربية» و«مقامات الحريري»، و«خطاب الإبداع» ثم كتب سلسلة «فنانون عراقيون» وتعتبر السلسلة بمثابة الإنسكلوبيديا عن الفنانين العراقيين.
ترأس العديد من المجلات والصحف العراقية ومنها مجلة «الأدب المعاصر» وعمل في إسرة تحرير مجلة «آفاق عربية» وفي إسرة تحرير «مجلة السينما اليوم» وكتب عدة سيناريوهات أفلام وثائقية. نشر الكثير من الدراسات في الصحف العربية وبخاصة اللبنانية والخليجية. محمد الجزائري عطاء دائم ومتجدد. أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته النقدية وبحوثه ودراسته في الثقافة العربية التي تشكل مراجع لا يستغني عنها الباحثون.
هو صديق طفولة وعشنا في حارة واحدة هي «حارة الخندك» وكان بيتهم المتواضع مقابل بيتنا المتواضع، فنحن من فئة إجتماعية متقاربة. كانت له مواقف شجاعة في زمن الدكتاتور. عانى كثيرا ولم يحصل على حقه المعنوي بسبب تردي الأوضاع السياسية في الوطن العراقي.
بعد سقوط النظام بقي محمد الجزائري يزداد معاناة ما أضطره ذلك للسفر بإتجاه دبي محاولا البحث عن عمل وبقي يكتب في الصحافة الخليجية ليقوم «بعض» متطلبات العيش وكان ذلك صعبا. وبقي يحاول أن يحصل على لجوء سياسي مثل الكثير من الفنانين والمثقفين الذين آوتهم بلدان الغرب ومنهم «صاحب هذه الكلمات».
كان محمد الجزائري يعاني من خفقات القلب المتزايدة وكان يشكو لي وحاول مرارا الحصول على فرصة للعلاج ولكن لم يسعفه مستشفى في الخليج، وحين تمكن من الوصول إلى بلجيكا وفيما هو يرتب أوراقه «الثبوتية» وفيما القلب لا يعطي دائما إشارات المداهمة دهمه بشكل مفاجئ ونقل إلى المستشفى ولم يصحو من إغفائة المخدر!
ربما كان مترددا في إجراء العملية حين حط الرحال في بلجيكا، فالفنان والمثقف المرهف قد يرغب في أن يبقى مغلقا بغلاف الجسد ولا يريد أن يشعر بأن تحت الرأس والشعر الأسود والأشقر والأشيب والعينين الجميلتين ثمة تلافيف ومخ وشرايين ولا يرغب ربما أن هذا الجسد وتحت الصدر الذي يواجه كدمات الحياة يكمن في جوفة أذينين وبطينين وحركة دائما لا يظنها تتوقف يوما.. ربما يتمنى المثقف المرهف أن يأتيه الأجل المحتوم مرة واحدة ولا يناور ويلعب معه لعبة البيادق. ربما فتأخر أبا أحمد أو تردد أن يدخل المستشفى ويتساوى مع النائمين في الملبس الأبيض.. ربما تراءى له المشهد كما المشهد الصعب في أقبية الأنظمة الإستبدادية.. ربما.
سرعان ما رحل محمد الجزائري وصفنت كثيراً حين تلقيت النبأ ومر أمام ناظري تاريخ ثري من العطاء الثقافي يمثله محمد الجزائري صديق الطفولة وصديق العمر.
لم يترك وصية لأصحابه لإبنه «أحمد» ولا لإبنته «ريا» فهو لم يتوقع الموت وكان حتى قبل يوم يكتب في مدونته ويبرق الخواطر. وقد كتب عن ذكريات الطفولة في العيد العراقي»عيدكم مبارك أيها الأصدقاء».
في فيلمي الذي أخرجته في الشارقة بعنوان «سيمفونية اللون» تحدث محمد الجزائري في الفيلم حديثا شيقا محللا اللون على لوحات الشارقة فهو أحد شخوص الفيلم الوثائقي. وصدقاً فقد منح الفيلم قيمة وأهمية في وجهة نظره بالحركة التشكيلية العراقية والعربية.
لم يكن محمد الجزائري كما كان يكتب لي راغباً في مغادرة العراق فهو من المتشبثين بجذور المكان، ولكن التصفيات الجسدية التي طالت الكثير من المثقفين وبسبب وفاة شريكة حياته دفعته للهجرة بإتجاه الخليج كمحطة يبحث من خلالها عن وطن جديد آخر.
عندما يؤسس المثقف تاريخه ممثلاً بكتاباته بمكتبته بعلاقاته الإنسانية بجاره وصاحب الدكان والمؤسسات الثقافية والصحافة ويكتب مخطوطاته حين لم يكن الحاسوب سجلاً معاصراً. كل هذا التأسيس من العلاقات والكتابات وقصصات الورق والأشياء الكبيرة والصغيرة والكتب النادرة في مكتبته والمعرفة بمكتبات الدولة والغوص فيها وإستلهام محتوياتها وحبرها، ثم فجأة يتخذ قرار الهجرة، ترى ما ذا يمكن أن يحمل من كل ذلك التاريخ وكل ذلك العطاء وكل تلك الصحف وكل تلك الذكريات، ولم يبق في البيت سواه!
هكذا يرحل المبدعون العراقيون في غربتهم ومنافيهم، ولكن هل ثمة خيمة حنان بديلة تحمي المبدعين داخل الوطن وتحمي تراثهم وتركتهم.. أيضاً لا.. فالذاكرة مبعثرة وسط ركام وحطام سقوف المنازل والمؤسسات وحطام النفوس.
آخر كلمة سمعتها منه بعد أن أنهينا تصوير مشهد «سيمفونية اللون» في الشارقة:
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!