علي الصراف
نصف السياسة سوء تقدير، ونصفها الآخر محاولة مريرة للتصحيح.
ولكن لماذا سوء التقدير؟ كيف يحصل؟ وما السبيل لتحاشيه؟
هذا سؤال يكاد يساوي في قيمته نصف الحروب التي خاضها العالم منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن.
أما الجواب، فلعله يساوي نصفها الآخر!
لو لم يندفع أدولف هتلر لغزو الاتحاد السوفياتي، ولو لم يوجّه نيران طائراته على بريطانيا، في وقت كانت فيه حكومتا هاتين القوتين تتبنيان موقفا مهادنا مع عنجهيته، هل كانت نتيجة الحرب العالمية الثانية سوف تكون كما انتهت إليه بالفعل؟
ولو لم يغز صدام حسين الكويت، هل كان حصل كل ما حصل في العراق اليوم؟
ولو لم تقم الولايات المتحدة بغزو العراق، هل كان اقتصادها سينكشف لتعاني من نكبة أزمة الرهون العقارية التي أسفرت، بدورها، عن أعنف أزمة اقتصادية عرفها العالم منذ ركود العام 1929؟
ولو لم يقم الإيرانيون بدعم حكومات ومليشيات فساد وعنف طائفي، هل كانت ستظهر تنظيمات مثل داعش؟
ولو لم يقم الحوثيون بالتحول إلى قوة غزو داخلي، هل كان موقفهم السياسي سيكون مخزيا إلى الحد الذي وصلوا إليه؟
لقد أخطأ هتلر في قراءة دوافع المقاومة لدى الاتحاد السوفياتي، كما أخطأ في قراءة ميزان الموارد البشرية والمادية التي يستطيع هذا البلد الممتد على اتساع هائل، أن يوفرها بينما لم يكن بوسع ألمانيا أن توفر ما يعادلها رغم احتلالها كل البر الأوروبي.
أخطأ أيضا في قراءة طبيعة الصلة «الأنجلو-ساكسونية» التي تجمع بين بريطانيا والولايات المتحدة. مما جلب لبريطانيا (ولمعادلة الحرب) قوة عسكرية ناهضة انتهت إلى أن أصبحت قوة دولية كاسحة.
على النحو نفسه، أخطأ صدام حسين في رؤية أنه إذ يلغي وجودا لدولة، فإنه يهدد وجود دولته، وأنه لا يمتلك القدرات العسكرية والمادية الكافية لا لتحدي الأسرة الخليجية، ولا لتحدي المجتمع الدولي الذي وجد في غزوه تهديدا للجغرافيا السياسية ولشبكة المصالح الاقتصادية التي تربط هذه المنطقة بالعالم.
ولئن نجح الأمريكيون في خوض حرب ساحقة ماحقة ضد العراق، فإنهم أخطأوا في التمادي بالسحق والمحق لمقومات دولة كانوا هم أنفسهم (كغزاة) بحاجة لبقائها تعمل. كما أخطأوا في تسليم السلطة لعصابات طائفية تتلقى أوامر متضاربة من طهران، مما جعل البلاد نهبا للفساد والفوضى. فانسحبوا من العراق بحثا عن سبيل للنجاة من كلفة باهظة ومن خسائر بشرية مهلكة أطاحت بأكثر من خمسة آلاف جندي، وأعطبت عشرة أضعافهم.
وأخطا الإيرانيون في رعاية نظامي عنف وفساد في العراق وسوريا، وظنوا أن القسوة والقهر بالقوة سيكونان كفيلين ببقائهما، من دون أن يلاحظوا قدرة مجتمعي هذين البلدين على التصدي للعنف ولو بالعنف. ولم يلاحظوا أيضا أن الظلم والتعسف لا قاعدة اجتماعية له.
وأخطأ الحوثيون في ارتداء ثوب أكبر منهم فتعثروا به، عندما حاولوا السيطرة على بلد لا أحد يمكنه أن يعطيهم أكثر من حقهم فيه. كما أخطأوا في قراءة المعادلة الإقليمية التي لا تجيز لليمن أن يكون شوكة في خاصرة الأسرة الخليجية. راهنوا على إيران، من دون أن يعرفوها. وتحدوا المملكة العربية السعودية من دون أن يعرفوها أيضا.
وكل هذا تعبير عن سوء تقدير. ولكن الأسوأ منه أنه عندما تحول إلى مواجهة عسكرية، فإنه قطع كل سبيل للعودة إلى الخلف. وما ذهب وسط غبار الحرب، صار من الصعب أن يُسترد.
وفي كل مرة، كان التصحيح مكلفا، ولكنه كان، في الوقت نفسه، صانعا لوجهة جديدة في التاريخ أيضا.
النازية هزمت إلى الأبد، كما هزمت مشاريع التهديد «القومي»، وكفت الولايات المتحدة أن تكون قوة غزو، واستنزفت إيران نفسها في دعم الفساد والطغيان، وأصبح أمن اليمن جزءا لا يتجزأ من أمن قوة عربية ناهضة.
ولكن، كيف يحصل سوء التقدير؟
إنه يحصل بالدرجة الأولى، لأن صانع القرار لا يجد مَنْ يحسب له «الحساب الآخر» بصدق الحقيقة وخشونتها؛ لا يجد نخبة تقرأ له المخاطر قبل أن تقع؛ لا يجد مَنْ يضع له النفع وعوائقه في كفة، والضرر وعواقبه في الكفة الأخرى، ليرى ما هو مقدم عليه.
لماذا؟
لأن ميزان الطغيان من كفة واحدة، مع الأسف.