د. خالد محمد باطرفي
بعد عودته من رحلة تفقدية في اليمن، رفع ستيفن اوبراين، مساعد أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، تقريراً إلى مجلس الأمن، وجّه فيه انتقادات شديدة للتحالف الذي تقوده السعودية لقصفه ميناء الحديدة، مدعياً بأنّ ذلك قطع شرايين الحياة لاستيراد السلع الأساسية: الغذاء والدواء والوقود.
وطالب أن تعمل أطراف النزاع على تسهيل مرور المساعدات الإنسانية وليس إعاقتها، واحترام وتنفيذ القانون الدولي الإنساني والتحقيق في الانتهاكات المحتملة ومساءلة الجناة.
مشيراً إلى أنه حتى الآن، تم تغطية 18 في المائة فقط، أي نحو 282 مليون دولار من قيمة المبالغ المطلوبة، والبالغة 1.6 مليار دولار. وأنه لم يتم تلقي التمويل الذي تعهدت به السعودية في أبريل - نيسان والبالغ 274 مليون دولار.
هذا التقرير يعطي إيحاء بأنّ الأمم المتحدة تأبه فعلاً لما يجري في اليمن، وتبذل ما تستطيع لإنقاذ اليمنيين. ولكن هل هذا الانطباع صحيح؟
لنعد قليلاً إلى الوراء، ونستعرض جهود الأمم المتحدة في إيجاد مخرج سياسي لأزمة اليمن. سنصدم أولاً بما ارتكبه مبعوثها «السامي» جمال بن عمر، في العام الأخير من مهمته من أخطاء أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه. فقد شرعن بن عمر للانقلاب الحوثي على الشرعية، وتجاوز عن تنكرهم لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني، التي شاركوا فيها ووقعوا عليها، واحتلالهم العاصمة، وسجن الرئيس وحكومته، وفرض اتفاقية السلم والشراكة، التي هندسها معهم، ثم انقلبوا عليها.
وفي كل مرحلة من هذه المراحل كان ممثل الأمم المتحدة يتفاوض مع الحوثيين وكأنهم الحكومة الفعلية، أو حكومة موازية، وليس فصيلاً انقلابياً مدعوماً من دولة أجنبية، ويجر الحكومة الشرعية وكافة أطراف الأزمة اليمنية إلى القبول بشروطه. وبقي يجامل ويهادن ويرفض تسمية الأشياء بمسمياتها، وإعلان أنّ ما حدث انقلاب على السلطة ورفع تقرير بجرائم الحوثيين في المناطق التي احتلوها، حتى أوشكوا أن يحتلوا عدن، ويغتالوا الرئيس، ويفرضوا الأمر الواقع على الجميع.
وبذلك تجاهلت الأمم المتحدة قرارات أعلى سلطة فيها، مجلس الأمن، وميثاقها، والنظام العالمي الجديد، وكلها تجرم الانقلاب والتعدي وفرض إرادة طرف على غيره بقوة السلاح.
وفي 14 أبريل صدر قرار مجلس الأمن، تحت إلزامية الفصل السابع، يطالب الحوثيين بالانسحاب من جميع المناطق التي احتلوها خلال النزاع الأخير، والتخلي عن الأسلحة التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية، ووقف جميع الإجراءات التي تقع حصراً ضمن سلطة الحكومة الشرعية في اليمن، والتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة. كما وجّه الحوثيين بالامتناع عن أي استفزازات أو تهديدات للدول المجاورة، وإطلاق سراح وزير الدفاع، مع جميع السجناء السياسيين والأفراد الموضوعين تحت الإقامة الجبرية أو الاعتقال التعسفي، وإنهاء تجنيد الأطفال. وطلب القرار من الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أن يقدم تقريراً عن مدى التزام الحوثيين بهذا القرار في غضون عشرة أيام.
المليشيا المتمردة رفضت حتى الاعتراف بالقرار، فضلاً عن تنفيذه، واستمرت في ارتكاب ما يمنعها القرار من ارتكابه. وبدلاً عن تقديم تقريره بذلك، كرر الأمين العام نفس خطيئة مبعوثه جمال بن عمر، فسمح لهم بالتفاوض مرة بعد أخرى، وطلب لهم هدنة بعد أخرى، ولما لم يستجيبوا لقرارات مجلس الأمن، ولم يحترموا تلك الهدن، أصر على تجاهل واجبه في رفع تقرير بذلك لمجلس الأمن.
وعندما كانت موانئ عدن ومطارها تحت الاحتلال الحوثي، الذي كان يقصف ويهدد سفن الإغاثة ونقل الأسر الهاربة من جحيم الحرب، حولت الأمم المتحدة جميع الشحنات الإغاثية لميناء الحديدة ومطار صنعاء، بدون توفير آلية توزيع تضمن وصول المساعدات لمستحقيها، وتجاهلت واقع أن أكثرها كان يحول للمجهود الحربي الحوثي، أو يباع في السوق السوداء لمصلحة مليشياتهم. أما الجنوب فقد انقطعت عنه شرايين الحياة، إلا من القليل الذي كان يصله عن طريق البر من مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية.
واليوم، عندما تعرّض ميناء الحديدة لخطر الإغلاق، رغم أن الهجمات الجوية تركزت على المواقع العسكرية فيه، بينما عدن، العاصمة الشرعية الحالية لليمن والمركز الدولي الجديد للإغاثة بعد انتقالها من جيبوتي، مفتوحة، وكذا مطار صنعاء، وجدت الأمم المتحدة صوتها وضميرها وتحركت مشاعرها الإنسانية. وبدلاً من السعي لتسريع إنهاء الحرب والمعاناة على الجميع بفرض القرار الأممي على الطرف المعتدي، والرافض لتنفيذه، توزع الاتهامات على الجميع، وتطالب السعودية بتسديد ما وعدت به، رغم أنها ودول الخليج هم أكثر من يقدم الدعم، ولا تسمي المقصرين. يبدو أن الأمم المتحدة تفضل أن تصل المساعدات إليها حصراً، لترسلها بدورها إلى الحوثيين، حصرياً!
على أنّ أسوأ ما جاء في بيان مساعد الأمين العام، تحميل جميع الأطرف مسئولية البؤس الناجم عن هذه الحرب. متناسياً أنّ قرارات مجلس الأمن حمّلت الحوثيين وحدهم المسئولية، وأقرت مهمة التحالف العربي لإنقاذ اليمن. وهكذا فبدلاً من العمل على تنفيذ هذه القرارات، والقيام بالدور المطلوب في مراقبة الأوضاع على الأرض والإشراف على الهدن الإنسانية وضمان وصولها إلى مستحقيها، يفضل رجال الأمم المتحدة إلقاء اللوم على من ينفذون قراراتها وتجاهل مخالفات من يرفضونها.
في الحروب، يدفع المدنيون والأبرياء ثمناً غالياً، هذا أمر لا مفر منه، ولكن ليس من العدل أن نساوي بين القصف المتعمد للمناطق المدنية بهدف القتل والتدمير والانتقام، والضرب المحسوب للمواقع العسكرية باستخدام القنابل والصواريخ الذكية، رغم كلفتها العالية.
والغريب أنّ حملة مماثلة يشنها تحالف دولي آخر، تقوده الولايات المتحدة، على داعش، والمعاناة الإنسانية في تلك المناطق تفوق معاناة اليمن بمراحل، ومع ذلك لم نسمع صوت الأمم المتحدة يطالب بمفاوضات مع المتمردين، أو هدن إنسانية لإنقاذ المدنيين، أو اتهامات لجميع الأطراف بتجاهل القانون الدولي.
ونفتقد هذا الحماس «الإنساني» أيضاً عندما تهاجم إسرائيل غزة أو لبنان. وعندما تحرق إيران وعملاؤها في سوريا والعراق، وقبلهم أمريكا، الأرض بمن عليها.
لمَ كلما أحرزت الشرعية اليمنية تقدماً، واقتربت مع حلفائها من تحرير مناطق إستراتجية، وجدت الأمم المتحدة صوتها وحماسها وضميرها؟ ولكن عندما يكون للمتمردين اليد الطولى، تهدأ مشاعرها ومطالبها وتعطيهم فرصة لمواصلة التقدم؟
هل سر ذلك أنّ الأمر يرتبط بهوية الأطراف ووزنهم الدولي؟ أم أنّ هناك مدراء كبار يوجهون سكرتيرهم «المطيع» في الأمم المتحدة بغضّ الطرف حيناً وفتح العيون على مصراعيها حيناً آخر؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحل لنا لغز فلسطين!