جارالله الحميد
(1)
كلّ كتابة جديدة هي كتابة حديثة ومعاصرة. ويظل الهدف من وراء الكتابة هو القول الفصل في تمييز كتابة عن أخرى. فهنالك كتابة مضللة، وكل كتابة تستغل اللاوعي الجمعي بتزوير التاريخ واللغة والقيم أيضا. فيجري إحلال قيم إنتهازية محلّ القيم الحقيقية في وجدان وتراث الشعب.
وكل كتابة تتعمد النظر إلى القارىء المحلي باستخفاف تسقط إزاء حرية القارىء النسبية بالقياس إلى حرية الكاتب. ولذلك جرى النظر إلى (الكتابة الجديدة والكتاب الجدد) كما أحب أن أصنفهم وكما ينبغي أن يكون. فكلمة الحداثة تشبه الدخلاء على القضية. فالحداثة أمر مرتهن بكيف يكتب الكاتب. ولكن الكتاب الجدد المحليين وهم الذين كانوا يعرفون طريق نشر أعمالهم في محيط العقد السابع من القرن الماضي أي منذ عام 73م فما فوق. لم يكونوا يشكلون بينهم وبين بعضهم اتحادا أو يمارسون تسويق بعضهم وإن كانوا معجبين بعضهم بالبعض الآخر ولا بدّ. منذ كتابة سليمان سندي وعبدالله السالمي وكوكبة كتاب القصة الجدد، وكلمة الجديدة ترافق كلمة الكتابة كونها كانت طريقة ابتكرها كتاب مصريون جدد مضادون لتيار الغموض والشعرنة في القصة وهي الكتابة التي سادت الأوساط الأدبية العربية كافة. كتعبير عن طموح الشعب للمعرفة وحفاظه على هويته الثقافية الأصيلة. وتنوع مواضيع القصص وميلها إلى أبطال يشبهون أبطال ألف ليلة وليلة أو حتى يشبهون شخصيات (نجيب محفوظ) أولئك الأبطال الآتون من الظل. وليسوا ذلك النوع المتأنق بدون مناسبة. معروف الإسكافي وزوجته الظالمة في ألف ليلة وليلة شخصيتان تختصران المجتمع بكل أطيافه وشرائحه. فالرجل ذو مهنة تعتبر وضيعة لدى العرب وهي الإسكافي أي الحذّاء بتشديد الذال وهو صانع الأحذية أي هي : حقله. وحاكمه الظالم هو أقرب إنسان لديه، زوجته التي تتفنن في طلباتها التعجيزية وتتلذذ بعذاباته التي تجيئه من وراء طلباتها التي تبتكرها كي تمارس سلطتها عليه. وإحساس القارىء تجاه (معروف) هو متضامن معه ومتحمس ليكون على قدم المساواة مع زوجته.
فالتعبير عن حالة الكتابة لدينا بكلمة كتيار الحداثيين وهي تشمل الذكور والإناث والقصة والشعر وكل (منجزها) حسب تنظير حرّاس التقاليد هو كتابة غائبة عن الوعي وكتابها أطفال ومراهقون وهي تلامس مواضيع لم يكن ينبغي حسب الحراس أن تلامسها وخاصة عندما تكتب كاتبة إمرأة قصيدة حب. وينظرون إلى منجز جيل السبعينات على أنه هذيان بينما هو في الحقيقة منجز حسب القياس المعجمي حالة المجتمع الذي يسير على دروب التحديث وبعضها كان متسارعا. ومن هذا الجيل يمتد خيط ما أو عِرق ما إلى الجيل الذي واكبه وسار حذوه. لا أمامه. لا خلفه حسب تعبير الراحل العظيم (أمل دنقل). وهو من جيل ما سُميّ بالثمانينات وتمثله (ليلى الأحيدب) و(فهد العتيق) و(يوسف المحيميد) وسواهم. وهو نفس جيل الكتابة الجديدة ولكن بعد أن تكونت سحابة صمت على الأسماء التي ذكرنا في البداية. وجيلي أنا كان جيل القصة الجديدة والحساسية اللغوية الفنية الجديدة. كان (حسين علي حسين) و(عبدالله باخشوين) و(فهد الخليوي) و(جبير المليحان) و(أنا) وآخرون الناطقين الرسميين باسم الكتابة الجديدة خاصة وقد تولت معظم الأسماء التي سقناها مناصب (ثقافية) شبه عامة عبر إشراف بعضها على ملحقات ثقافية ومساهمة بعضها الصحافية التي أعطت للصحافة رونق الجدة والإبداع والألق.
كانت رحلتي لذيذة رغم صعوبتها. قصة المراهق الذي صادف مرة أن سمع في (الراديو) وكان وسيلة معرفية جديدة بتكنيكاتها المختلفة. سمع في برنامج اسمه (برنامج الشباب) عن جائزة لأفضل قصة قصيرة. ومن لحظته بدأ يكتبها. كانت مزيجا من خبرة لغوية جيدة بسبب دراستي في (المعهد العلمي) أو الديني بالأصح. وخبرة قرائية واسعة وخاصة في الجانب المصري والدرامي منها. وصادف أن فازت قصتي وبالتالي فزت بالمسابقة وكانت الجائزة عبارة عن (100 مئة ريال). ولم أتسلم قرشا منها ولكنني كسبت أن فرصتي الأولى في النشر كانت أكبر باعتبار مناسبة نشر أفضل قصة قصيرة محلية. وكان هذا تطبيعا للعلاقات الطبيعية - أصلا - بين الراديو والجريدة. في سعيهما إلى تكوين عقلية مواطن خلاّق.
في البداية مشيت على الأقدام من حي (السويدي) بشارع الخزان حيث بيت نسيبي عبدالرحمن العلي إذ كنت أسكن إلى شارع البطحاء ثم أنعطف يسارا إلى شارع (المرقب) حيث تسكن الشقيقتان (اليمامة) و(الرياض) بمطابعهما وآلاتها الثقيلة ومكاتبها البسيطة ولكن الأنيقة مقسمة بين رئيسي تحرير ومحرري كل من اليمامة والرياض. وأخذ بيدي بإصرار واندفاع شديدين الأستاذ (محمد بن أحمد الشدي) وكان رئيسا لتحرير اليمامة. وعلمني كيف أحرر حتى صفحات (هي) إذا تغيبت الزميلة (سناء بكر يونس) وكذلك كتبت كذا مرة في الملحق السياسي وكان هامش الحرية جيدا إلى حدّ ما. وكانت المملكة تتكوّن من جديد. بدأت إيرادات النفط ترتفع وأثمرت السياسات الاقتصادية في جعل الوطن يتحول بقفزات واسعة نحو : الأفضل والأجمل !. وكان وقتي كله للقراءة والكتابة ومشاوير السير بين المرقب والخزان مرورا بالبطحاء. قرأت كثيرا. وخاصة للمصريين.
(يتبع)