د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
باقتدار مذهل على امتلاك ناصية الكتابة الروائية بتنوع الشخوص وتعدد الأزمنة وتداخلها جاءت رواية (طوق الحمام) المعبر عن لوعة عشق لمكان يغتاله جشع اتخذ من تزايد زوار قبلة العبادة مطية لإشباع نهم بلا حدود، كأنما دونت بكائية رثائية على مكة التي تصوحت معالمها التراثية واجتثت دلائل تاريخها المكتسب قداسته من قداسة المكان، ونهشت تلك الجبال الحانيات على واد غير ذي زرع قدّر له أن يكون مهوى قلوب البشر من كل حدب وصوب. وتفاجئنا بإهداء اعتراضي لا استعراضي “لبيت جَدِّي عبداللطيف. البيت الذي يحمل علامة إكس حمراء، تعني أنه مُعَدٌ للإزالة”.
وفقت الروائية الرائعة رجاء عالم حين استنطقت (زقاق أبوالرووس) ليحكي الرواية التي لا يحسن غيره روايتها، فجاءت الرواية باهرة بما فيها من دقة التفاصيل واستقصائها وما تستعرضه من الحقيقة والأسطورة ومن التراث ومنجزات العولمة العاصفة بالثقافات، وما يموج به المكان من تغيرات مفروضة، تذهلك الروائية بقدر هائل من المعرفة والثقافة المثرية للرواية، فتنداح في دوائر تتجاوز محور الحادثة التي رويت عن انتحار امرأة أو قتلها في الزقاق، وسعي محقق جنائي في الكشف عن ملابسات هذا الحادث في تفاعله وتعامله مع شخوص الرواية الذين يعرضون جوانب متباينة من الصورة الفسيفسائية التي تبدو للناظر القريب مفرقة، ولكن تكاملها يجسد الصورة الكلية الفاقعة التي تتجلى بأوضح تجلياتها حين يظهر ضلوع المحقق في الجريمة الكبرى، وهي اغتيال المكان حين يحرق من شواهدها ما يحرق خضوعًا لسطوة المال.
الغموض والوضوح المتداخل في قسمي الرواية يدهش القارئ؛ ولكنه يرهقه، كما تدهشه هذه اللغة السردية الرائعة؛ ولكنه بلا شك يأسف لهذه الأخطاء الطباعية الكثيرة التي لم تتخلص منها الرواية في طبعتها الثالثة، وقد يتعلق هذا بالقرآن ففي ص 187 نجد “أتعرف الآية 260 من سورة البقرة، التي يطلب فيها عيسى من الله: ارني كيف تُحيي الموتى.. حين يأمره الله: فخذ أربعة من الطير فصُرَّهن إليك”، والصواب أن الطالب هو إبراهيم عليه السلام، وفعل الأمر ليس من (صرّ) بل من صار يصور فهو (فَصُرْهُنَّ)، قال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}. ومن الأخطاء في نظري ما آل إليه تنوين المنصوب فوضع الفتحتين على الألف أوهم أنهما للتنوين وحده؛ ولذا نجد فتحة على الحرف قبله مثل (مُحْتَاطَاً/ سِرَّاً/ سِتْرَاً) ص23، والأولى عندي: مُحْتَاطًا/ سِرًّا/ سِتْرًا. ومن الأخطاء العامة نعت المؤنث بالمذكر مثل “بدأت بالأكياس الأقرب” ص338، والصواب: بدأت بالأكياس القربى، وأجمل من ذلك: بدأت بأقرب الأكياس. ونعت المعرفة بنكرة، مثل “تلك الجرافات فاقعة الصفرة” ص341، والصواب: تلك الجرافات الفاقعة الصفرة، لأنك تقول في التنكير: تلك جرافات فاقعة الصفرة. وقد يخالف بين العددين المتعاطفين فيكون أحدهما معرفة والآخر نكرة، مثل “خلال المئة وخمسين عاماً الماضية” ص361، والصواب: خلال المئة والخمسين عامًا الماضية. وكذلك إدخال (ال) على المضاف، مثل “للسبع سنوات” ص 367، والصواب: لسبع السنوات. ونجد الخطأ الشائع الذي شاع تصحيحه فمن عجب وروده، ففي ص 412 نجد “مع استشاريين أكِفَّاء”، وهذا جمع كفيف، والجمع الصحيح هنا: أكْفاء. وقد تلحق تاء التأنيث بلفظ مذكر مشترك بين الذكور والإناث، مثل “وإنما كرسولة” ص 447، والصواب:كرسول وإن كانت الكاف هنا متوقف فيها أيضًا. ومثله “كحلمات أرنبة” ص458، والصواب: كحلمات أرنب، ومن الأخطاء النحوية المتكررة ترك نصب التمييز مثل “دام لأربعة عَشَر قرن” ص448، والصواب: دام لأربعةَ عشرَ قرنًا. ونجد استعمال لغة الشباب كما في: “فصدمه طلبها” ص469، والصواب: فاجأه طلبها.
صيغت بعض النصوص بصفتها مرويات تراثية من عصر متقدم؛ ولكن القارئ يجد آثار لغة المحدثين فيها وأخطاء استعمالاتهم، جاء في ص508 “حين ظهر الغطفاني يقود ناقتي الْمُسْرَجة لم يطرف لي جفن، باعتقاد أنّه من التهويمات الطالعة من هذياني، ولم يستوقفنا أحد حين عبرنا حائط الجبال تلك بقرون الشيطان”، والسرج للخيل أما الإبل فلها القتب فالوصف الصحيح المقتبة، والتهويم القليل من النوم، والصياغة بجملتها صياغة محدثة، ولست أدري كيف يكون الباب طينيًّا في ص 508- 509. وما ذكرته هو من قبيل التمثيل لا الحصر.
الأمر الجلي أن الرواية رائعة تستحق القراءة وتستحق ما نالها من ثناء وجائزة.