أ. د.عثمان بن صالح العامر
بعد غزو العراق الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990م، كثر الحديث في الوسط المحلي والصحافة السعودية عن عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي التي يعتنقها الغازي ويؤمن بها، وتحدث الناس عن القومية العربية التي يدندن حولها الصداميون، ومع كثرة ما كُتب وقيل، فإنها كتابات وأحاديث تتكئ في الغالب على الخطاب العاطفي الذي يتحدث عن الفكر القومي عموماً والبعثي على وجه الخصوص بلغة الغائب دون الرجوع للنصوص المحفوظة عنهم والموجودة في تراثهم السياسي؛ لعدم القدرة على الوصول لأدبيات هذا الفكر المغيب ردحاً من الزمن عن الساحة الفكرية في المملكة العربية السعودية، وإن وجد شيء من مدوناتهم عند بعض من الأتباع فإنه يحتفظ به بطريقة سرية مستترة لا يمكن أن تظهر إلا لمن هم خاصة الخاصة عنده.
كنت حينها أبحث عن موضوع لأتقدم به متطلعاً إلى نيل درجة الدكتوراه، فقدح في ذهني - وأنا أعايش هذا الحدث المفصلي في حياة الأمة العربية - نقد الفكر القومي العربي، وسبر أغوار منطلقاته العقدية وركائزه الفكرية، وبعد مناقشات ومداولات مع أساتذتي والمهتمين بدراسة الفكر السياسي خلصت إلى دراسة إشكالية النهضة في الفكر القومي العربي.
في مثل هذه الأيام عام 1994م كنت في دمشق أحضر معرض دمشق الدولي للكتاب، وأحاول جمع مادتي العلمية من مكتبات سوريا العامة والتجارية، وألتقي مفكري البعث وكتابه ومنظّريه، وممن التقيتهم في تلك الرحلة العلمية التي لم تخلُ من مضايقات وأتعاب المفكر القومي الماركسي المعروف الدكتور طيب تيزيني صاحب المشروع الفلسفي التفكيكي للفكر العربي بنفس ماركسي صرف.
أخذت رقم هاتف منزله من أحد أساتذة كلية الآداب في جامعة دمشق الذين التقيتهم في أول النهار، واتصلت به فرحب بي ودعاني لمنزله في ريف دمشق، وفوراً اتجهت هناك، وما أن دخلت عليه بيته وعرفته بنفسي وبمشروعي العلمي حتى سكت قليلاً وطأطأ رأسه ثم قال متعجباً ومستنكراً دراستي الفكر القومي العربي، مشيراً عليّ أن أدرس «إشكالية النهضة في الفكر الوهابي - كما يقول هو عنه!» معتقداً بهذا أنه يقدح فيما نؤمن به ونعتقده، ظاناً أننا لا نملك مشروعاً نهضوياً متكاملاً، وأن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليست إلا فكراً رجعياً متخلفاً، فنحن نوصم في ذهنية هذا الرجل وأمثاله بالرجعيين الذين يعيشون حياة البداوة والتخلف.
قلت له وأنا أتكلم بلغة القوة والثقة: ما تطرحه - وأنت المفكر الخبير - جدير بالدراسة والتحليل، إلا أنني أجزم أن دراستي لهذه الإشكالية في دعوة الشيخ - رحمه الله - ستعيدني إلى صدر الإسلام حيث كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام وسلف الأمة الأخيار، فَهُم المرجعية والمآل، وهذا الموضوع كثيراً ما طُرق وبُحث ونُوقش سواء من خلال دراسات أكاديمية علمية أو ندوات متخصصة أو حلقات نقاش وورش عمل، وليس عيباً ولا قدحاً في الدعوة التي نفتخر بها ونعتز بمنطلقاتها وركائزها أن تعيدنا إلى عهد النبوة ووقت الرسالة - كما تقولون - بل إعزاز لها ورفع من شأنها أن تتسم بهذه السمة والخاصية المهمة.
نحن نعتقد أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب متبع لا مبتدع، مجددٌ للسلفية الصحيحة الوسطية الحقة، والنهضة عنده ونحن تبع ترتكز على «الإنسان» السليم العقيدة، الصحيح المنهج، الناضج الفكر، المتسلح بالعلم الشرعي والمعارف الإنسانية، المتمسك بالقيم والأخلاق الإسلامية، المتفاعل مع من حوله بهدي القرآن وسلوك رسول الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
سكت برهة ثم هز رأسه وهو يتمتم بكلمات لم أستطع أن أميزها، وخرجتُ من عنده كما دخلت ولم استفد حرفاً واحداً منه، وبقيت قناعتي راسخة بأن نهضتنا معقودة - بعد توفيق الله وعونه - بالدعوات التجديدية التي ينبري لها أمثال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وبالتمسك الحقيقي بمضامين الخطاب التجديدي المبني على الدليل العارف لمعطيات الواقع وتداعياته، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.