د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
من قراءات القرآن قراءات سبعية متواترة لقوله تعالى {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه63]؛ قال ابن خالويه “قوله تعالى: {إنّ هذان لساحران}. أجمع القراء على تشديد نون (إنَّ) إلَّا (ابن كثير) و(حفصًا) عن (عاصم) فإنهما خفَّفاها”(1). ومع ذلك لم يتخذ هذا الإجماع أساسًا للتقعيد؛ لأن رفع اسم إنَّ هنا جاء في موضع واحد، وجاء منصوبًا في كل المواضع بقراءتهم موافقة لاستعمال جمهرة العرب في نثرها وشعرها، فكان التقعيد نصب الاسم بعد (إنَّ)، ولو قعّد اعتمادًا على أي قراءة لتعاندت القواعد، ولكن ألا يستشهد بهذه القراءة؟ بلى يستشهد بها وبكل قراءة حتى الشاذة، قال السيوطي: “وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسًا معلومًا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه، ولا يقاس عليه، نحو: استحوذ، ويأبى. وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافًا بين النحاة”(2)؛ وما قرره السيوطيّ صحيح؛ لأن الاستشهاد بالنص لا يعني الاعتماد عليه في التقعيد؛ لأن الاعتماد على جمهرة الاستعمال، ويكون الاستشهاد لبيان استعمالات مخالفة مقبولة من حيث هي لغة مسموعة؛ ولكنها ليست مقيسة يصح للخالفين القول على منوالها؛ إذ لا يصح أن نقول: إنَّ الزيدان قادمان، نقل الجواليقي أنّ الفراء قال: “واعلم أنّ كثيرًا ممّا نهيتك عن الكلام به من شاذّ اللغات ومستكره الكلام، لو توسَّعتُ بإجازته لرخَّصتُ لك أنْ تقول: رأيت رجلان(3)، ولقُلْتُ: أرَدتُ عن(4) تقولَ ذاك؛ ولكنْ وَضَعْنا ما يتكلّم به أهلُ الحجاز وما يختارُهُ فُصحاءُ أهلِ الأمصارِ، فلا تلتفت إلى مَنْ قالَ يجوزُ، فإنّا قد سمعناه، إلّا أنّا نُجيزُ للأعرابيّ الذي لا يتَخَيَّرُ، ولا نُجيزُ لأَهْلِ الحَضَرِ والفصاحةِ أنْ يقولوا: السَّلامُ عليكِم(5)، ولا: جئتُ مِن عَنْدِك، وأشباهه مما لا نُحصيه من القبيح”(6).
ومن هنا يتبين أن الاستشهاد أمر يختلف عن التقعيد، إذ يكون الاستشهاد للمطرد وللشاذ؛ وأما التقعيد فعلى ما جرى استعماله جمهرة العرب. فالاستشهاد لا يعدو إثبات استعمال كان في فترة الاحتجاج بالمسموع والمروي عنهم، وما تجاوز تلك الفترة فهو تمثيل يوافق ما استشهد به، وأما ما خالفه فهو لحن، ولذلك اختلف الموقف من مخالفات الشعراء فما كان في عصر الاحتجاج التمس تأويله أو حمل على الضرورة أو الشذوذ، وما كان في غير عصر الاحتجاج عدّ من اللحن.
ومن هنا يتبين أنه لا يقعد بكل قراءة وإن كانت سبعيّة، وقد يقعد بالقراءة الشاذة لموافقتها جمهرة الاستعمال، ولعل هذا ما يفهم من قول ابن جني في بيان غرضه من تأليف (المحتسب) “وضربًا [من القراءة] تعدى ذلك، فسماه أهل زماننا شاذًّا؛ أي: خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله -أو كثيرًا منه- مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. نعم، وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنُف بغيره فصاحته، وتمطوه قوى أسبابه، وترسو به قَدَمُ إعرابه؛ ولذلك قرأ بكثير منه مَن جاذب ابن مجاهد عِنَان القول فيه، وماكَنَه عليه، ورادَّه إليه؛ كأبي الحسن أحمد بن محمد بن شَنَبوذ، وأبي بكر محمد بن الحسن بن مِقْسم، وغيرهما ممن أدى إلى رواية استقواها، وأنحى على صناعة من الإعراب رضيها واستعلاها. ولسنا نقول ذلك فسحًا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءاتهم، أو تسويغًا للعدول عما أقرته الثقات عنهم؛ لكن غرضنا منه أن نُرِي وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بِجِرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه؛ لئلا يُرَى مرًى أن العدول عنه إنما هو غض منه، أو تهمة له”(7).
والذي يُنتهى إليه أن نصوص العربية في عصر الاستشهاد منها ما يستشهد به على ثبوت الاستعمال ولا يقاس عليه لمخالفته جمهرة الاستعمال، ومنها ما يستشهد به على ثبوت الاستعمال ويقاس عليه لموافقته جمهرة الاستعمال ويكون به التقعيد. فالاستشهاد عام والتقعيد خاص، وأما النصوص بعدُ فما وافق المقعد فهو مثال، وما خالفه فهو لحن.
** ** **
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات السبع، تحقيق: عبدالعال مكرم، ص242.
(2) السيوطي، الاقتراح، تحقيق: محمود فجال، ص 68.
(3) من لغات العرب لغة القصر وهي التزام الألف رفعًا ونصبًا وجرًّا.
(4) أي (أنْ) وهي عنعنة تميم، تنطق الهمزة عينًا.
(5) هي لغة الوكم، كسر الكاف من ضمير المخاطبين.
(6) الجواليقي، تكملة إصلاح ما تغلط به العامة، تحقيق:حاتم صالح الضامن، ص 46.
(7) ابن جني، المحتسب، 1: 32.