د.عبد الرحمن الحبيب
يروي الكاتب كلايف جيمس في قصته: كنت في حفلة في لندن محاطاً بجموع من الناس يتحدثون عما هو شعورك لو كنت سجيناً في معسكر اعتقال تعذيب؟.. الكاتب قال إن السؤال الأكثر إثارة ما هو شعورك لو كنت جلاداً في هذا المعسكر؟.
أن تتخيل أنك ضحية أم جلاد!.. الأول أسهل استحضاراً من الثاني، لأن لا أحد يتخيل أنه في الجانب الشرير. والشرير نفسه لا نشعر أنه إنسان. تلك إحدى المشاكل التي نعاني منها في تحليل عقلية الإرهابيين. يقول ديفد ريف (الباحث في الصراع الدولي والمساعدات الإنسانية): أحد أكثر الأمور المزعجة التي تعلمتها هي الطريقة السريعة التي يصبح بها الضحيةُ جلاداً، والجلادُ ضحيةً.. ولم أتعافَ أبداً من ذلك!.
في معسكرات الاعتقال النازية كان العديد من أقسى الحراس هم أنفسهم سجناء من قبل بسجون كابو الدموية. الضحايا هنا استجابوا للصدمة بأن تحولوا إلى جناة، كما يقول أيان روبيرتسون، بروفيسور علم النفس والأعصاب مفسراً العمليات الوحشية التي تمارسها داعش في العراق وسوريا بأن الوحشية تولّد الوحشية: فالقسوة والعدوان وعدم التعاطف تكون هي رد الفعل المشترك للناس الذين تعرضوا للمعاملة القاسية. يقول ديفيد ريف: أنا أشك كثيراً بما يسمى التدخل الإنساني «الغربي».. أعتقد أن الغرب لا يعرف ما يكفي عادة للتدخل.. إنه مجتمع نرجسي غارق في نظرته الداخلية، مثلاً عندما يتدخل في الشرق الأوسط بكل غطرسة.. أنا لست ضد التدخل لكن من الذي يتدخل؟ إنها نفس القوى الاستعمارية السابقة.. بالتأكيد ثمة خطأ هنا!.
عنوان المقال الاستفهامي يقود إلى سؤال آخر: تخيل لو أنك عضو في منظمة إرهابية؟ الركيزة في أسئلة المقال هي محاولة فك حالة التعامل مع الآخر على أساس أنه ليس بشراً مثلنا، لأننا لا نستطيع التخيل أننا مكانه. مثلاً، مواطن سوري مسالم، دخل في حركة تحاول رفع الظلم مع أفراد مقهورين يستخدمون نفس وسائل النظام القاسية لينتصروا عليه، وخلال دوامة الصراع تصاعد عنف الحركة.. حتى وصلت إلى وحشية حادة تبرر قتل الأبرياء.. إنها تُسقط شكل النظام وليس مضمونه القمعي.. فصارت الحركة جزءاً من دائرة العنف لا تستطيع الخروج منها، لتصبح حرب القسوة وليست حرب العدالة.. حرب الغرائز العدوانية. عندما تحتشد مجموعة من الناس معاً للدفاع عن قضية يرتفع معدل هرموني الأوكسيتوسين والتستوستيرون في الدم فتتحفز العدوانية، ويسهل فقدان التعاطف مع الذين خارج المجموعة فلا يصبحوا بشراً بل مجرد أشياء يمكن فعل أعمال رهيبة تجاههم، حسب روبيرتسون.
ليس فقط الإرهابيون يعانون من النظر للآخر على أنه كائن غير بشري، وتقسيم الناس إلى فسطاطين: أخيار وأشرار، بل كثير من التدخلات الغربية تكلمت بمنطق الدفاع عن الأخيار ضد الأشرار، لغة استخدمها جورج بوش كأحد تبريراته لغزو العراق.. «حسناً، قد تكون كذبة، ولكن هذا الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بالرضا..»، كما قال أحد الأمريكان؛ فيما كثير من الأمريكيين قاطعوا البضائع الفرنسية عندما رفضت فرنسا الانجراف مع هذا الغزو، واعتبرهم خونة ناكرو الجميل الأمريكي في الدفاع عن أوروبا. أما هلاري كلنتون فكانت ظريفة عندما قالت عن فظائع الجنود الأمريكان هناك: «حسناً، إنهم مجانين، ولكنهم أبناؤنا!».
تعمل كثير من التحليلات وكأن الآخر ليس من البشر، وتنظر لأمور الآخرين عن بعد.. من فوق أو من الخارج، مثلما كانت محطات التلفزة الأمريكية (قبل شيوع الأجهزة الذكية) تصور ضرب العراق عام 2003 من بعيد وكأنه فيلم كارتون حيث لا نرى الضحايا ولا نتخيلهم.. ليبدو العمل إنسانياً.. حتى أن الجناة (الذين يكذبون) يصدقون كذبتهم، إلا في حالات نادرة.
خذ على سبيل المثال الأفلام السينمائية، فمن يقوم بدور الشر يبدو في أغلب السرديات مقتنعاً أنه شرير ويتشكل بمظهر شيطاني، وكأن من يقوم بأعمال عدائية له مظهر خاص مختلف عن البشر.. تلك موجودة في خيالاتنا المريحة وليس في الواقع المزعج. هذه نرجسية تحاول بناء سردية تطمئننا.. نطالع المشهد عبر نافذة من عمارة شاهقة نرى بها الناس والأحداث من بعيد، بدلاً من أن تكون مرآة نرى فيها أنفسنا. ذلك ما أدى بمخرج الأفلام الوثائقية جوشوا أوبنهايمر إلى ما سماه تقليص الابتذال في هذه الرؤية مؤكداً أن قدرة الإنسان على الاعتداء تعتمد على قدرتنا بأن نكذب على أنفسنا. إذا كان الجناة بشر، فهم يعرفون ما هو الصواب والخطأ؛ فكيف يقومون بأعمالهم لخدمة مصالحهم الذاتية؟ يتم ذلك، من خلال إخبار أنفسهم أنهم لا يقومون بخدمة مصالحهم. غضب «الأخيار» هنا هو كنقطة انطلاق لنوع من التدخل الغربي المتغطرس، كما أعتقد، هو بداية تلك الآلية من العنف.. البداية دائماً تظهر من خداع النفس، يقول أوبنهايمر.
أن نفهم مشاعر الذين يقومون بأعمال إرهابية لا يعني إعطائهم أعذاراً أو مبررات لتلك الأعمال المدمرة بل تفسيرات لفهم لماذا يفعل البشر هذه الأعمال. إذا كنا لا نقبل الافتراض غير المريح بأن مرتكبي هذه الأعمال الفظيعة هم بشر مثلنا، فإننا نحول دون إمكانية فهم تلك الأعمال، وبالتالي يصعب معرفة كيف يمكننا منعها.
مهمة التحليل ينبغي أن تشمل الاكتشاف وأن تزج نفسها داخل القضية أو الحالة لتفكيكها إلى مكوناتها الأولى، وذلك بأن نشعر حالة مرتكبي هذه الأعمال الفظيعة كبشر بدلاً من تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار. هذا التقسيم مريح لأننا حتماً مع الأخيار ولكنه ليس من مهمات التحليل.. النازية بكل بشائع جرائمها ضد البشرية كانت تلقى تأييداً جارفاً من الشعب الألماني، وبعد نهاية الحرب صار نفس الشعب مسالماً ومتوجهاً نحو البناء، لتصبح ألمانيا على ما هي عليه الآن. ما الذي تغير بهذا الشعب؟ كان قبيل الحرب خائفاً، مما حرك غرائزه العدوانية وهيئ لمناخ الحرب ضد الجميع.. غريزة حرب تغلبت على أبسط مقومات المنطق العقلاني الذي اشتهر به الألمان.
في عام 1932، كتب آينشتاين رسالة إلى فرويد يناقشه عن إمكانية منع الحرب العالمية الثانية. فقال فرويد: «أنا متشائم لأن هناك غريزة القتل التي تجذب الناس وتوجههم نحو الحرب والموت، وذلك لن يذهب بعيدا».